صبحي غندور
إنّ الصراعات الداخلية الدموية الجارية الآن فـي أكثر من بلد عربي، وبروز ظاهرة «داعش» وأعمالها الإجرامية التقسيمية للأوطان وللشعوب، لم تصل بعدُ كلّها بالعرب إلى قاع المنحدر، فما زال أمامهم مخاطر كثيرة قبل أن تتّضح صورة مستقبلهم. لكن وجود هذه المخاطر فعلاً، وما تشهده الآن بلاد العرب من أفكار وممارسات سياسية خاطئة باسم الدين والطائفة أو «الهُويّات الإثنية» يجب أن يكون، هو ذاته، الدافع لتحقيق الإصلاح الجذري المطلوب فـي الفكر والممارسة، فـي الحكم وفـي المعارضة.
فقد شهدنا فـي الفترة الماضية تفسيراتٍ مختلفة للتراجع الحاصل فـي عموم المنطقة العربية، وللهواجس التي تشغل الآن بالَ كلّ إنسانٍ عربي، لكن قلّة من هذه التفسيرات تضع الإصبع على الجرح العربيِّ الأكبر. فأساس المشكلة هو أصلاً بالمجتمعات العربية نفسها، وبكلِّ من فـيها، وليس فقط بحكّامها أو بما هو قائم من مشاريع ومؤامرات أجنبية.
إنّ غياب الفهم الصّحيح للدّين والفقه المذهبي ولمسألة الهُويّة وللعلاقة مع الآخر أيّاً كان، هو المناخ المناسب لأيّ صراع طائفـي أو مذهبي أو إثني يُحوّل ما هو إيجابي قائم على الاختلاف والتنّوع إلى عنفٍ دموي يُناقض جوهر الرّسالات السّماويّة والفهم السليم للهُويّة الثقافـية العربية، ويحقّق غايات الطامحين للسيطرة على العرب وعلى أرضهم ومقدّراتهم!.
وكم هو ساذجٌ من يعتقد أنّ القوى الدولية الكبرى حريصةٌ الآن على مصالح وحقوق شعوب المنطقة، بعد أن استعمر هذه المنطقة عددٌ من هذه القوى الكبرى ولعقودٍ طويلة، واستعمارها هذا كان هو المسؤول الأول عن تخلّفها وعن أنظمتها وعن تقسيمها، ثم عن زرع إسرائيل فـي قلبها، وعن احتلال فلسطين وتشريد شعبها وعن استنزاف الدول المجاورة لها فـي حروبٍ متواصلة. وقد كان بعض هذه الدول الكبرى مساهماً فـي تأسيس النواة الأولى لجماعات التطرّف والإرهاب بالعالم الإسلامي، ثمّ فـي تسهيل وجود هذ الجماعات وانتشارها بدول المشرق العربي. وهاهي الآن، هذه الدول الكبرى، تتحدّث عن أمن وحرّية ومصالح الشعوب العربية بينما ما يزال مرفوضاً لديها حدوث أي انتفاضة فلسطينية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، فكيف بمقاومته عسكرياً، فـي حين شجّعت هذه الدول بعض شعوب المنطقة على استخدام العنف المسلّح من أجل تغيير حكوماتها!!.
جماعاتٌ كثيرة تمارس أسلوب العنف المسلّح تحت شعاراتٍ دينية إسلامية، وهي تنشط الآن فـي عدّة دول بالمنطقة والعالم بينما هي تخدم فـي أساليبها وفـي أفكارها المشروع الإسرائيلي الهادف لتقسيم المجتمعات العربية وهدم وحدة الأوطان والشعوب معاً.
إنّ اتساع دائرة العنف الدموي باسم الإسلام أصبح ظاهرةً خطرة على صورة الإسلام نفسه، وعلى المسلمين وكافّة المجتمعات التي يعيشون فـيها. وهذا أمرٌ يضع علماء الدين أولاً أمام مسؤولية لا يمكن الهروب منها، فهم إمّا فاشلون عاجزون عن ترشيد السبيل الديني فـي هذه المجتمعات، أو أنّهم مشجّعون لمثل هذه الأساليب. وفـي الحالتين، المصيبة كبرى.
كذلك هي مشكلة غياب المرجعيات الفكرية الدينية التي يُجمِع الناس عليها، وتحوُّل الأسماء الدينية إلى تجارة رابحة يمارسها البعض زوراً وبهتاناً.
لقد أصبح العنف باسم الدين ظاهرة بلا ضوابط، وهذا نراه فـي مجتمعاتٍ شهدت حراكاً لتغيير حكوماتها وأنظمتها بينما تسير أمور هذه المجتمعات وأوطانها من سيّءٍ إلى أسوأ. فالتغيير القائم على العنف المسلّح والقتل العشوائي للناس يؤدّي حتماً إلى تفكّك المجتمع، وإلى صراعاتٍ أهلية دموية، وإلى مبرّرات لتدخّلٍ إقليمي ودولي أوسع.
وينطبق الآن على حال الأوطان العربية والإسلامية وصف مرض «ازدواجية الشخصية». ففـي معظم هذه البلدان تزداد على المستوى الفردي ظاهرة «التديّن» واهتمام الناس بكيفـية تفاصيل «العبادات الدينية» وفق اجتهادات فقهية محددة، لكن مع ابتعادٍ كبير لهولاء الأفراد ولهذه المجتمعات عن مبادئ الدين وقيَمه وفروضه الاجتماعية.
إنّ المسلمين عموماً، والعرب خصوصاً، بحكم دور لغتهم بنشر الدعوة الإسلامية، وبسبب احتضان أرضهم للمقدّسات الدينية، ولكونها أيضاً مهبط الرسل والرسالات، مدعوون إلى مراجعة هذا الانفصام الحاصل فـي شخصية مجتمعاتهم، وإلى التساؤل عن مدى تطبيق الغايات النبيلة المنصوص عليها فـي كلّ الكتب السماوية من قيم ومبادئ.
فأين الالتزام بقول الله تعالى: (ولقد كرَّمنا بني آدم) بغضِّ النّظر عن أصولهم وأعراقهم وألوانهم وطوائفهم؟ أين القيم الدينية الشاملة لمسائل العدالة والمساواة والشورى وكرامة الإنسان فـي كثير من المجتمعات العربية والإسلامية؟ وأين الوحدة الوطنية فـي هذه المجتمعات، وأينَها بين كلّ المؤمنين بالله، وأينَها بين الطوائف والمذاهب المختلفة؟ أين التكافل الاجتماعي ومكافحة العوز والفقر؟ وأين دور الاجتهاد والعلم والعلماء ومرجعية العقل فـي مواجهة الجهل وظواهر الجاهلية المتجدّدة حالياً فـي الأفكار والممارسات؟ أين رفض التعصّب والتمييز؟ أين المسلمون من جوهر إسلامهم، وأين العرب من كونهم «خيرَ أمّةٍ أُخرِجت للناس» بعدما حملت رسالةً تدعو إلى الإيمان بالله الواحد وبكتبه ورسله، لا تفرّق بينهم، وتؤكّد على وحدة الإنسانية وعلى قيم العدل والمساواة بين البشر؟!.
مشكلة العالم الإسلامي الآن أنه لا يتوازن مع تراثه الحضاري الإسلامي الذي يقوم على الحوار مع الرأي الآخر وعلى رفض سلوك الإكراه فـي الدين:
– «ادعُ إلى سبيلِ ربِّك بالحِكْمةِ والمَوْعظةِ الحَسَنَةِ وَجادِلْهُم بالتي هيَ أحسنُ» / سورة النحل – الآية 125.
– «أفَأنْتِ تُكْرِهُ النَّاسَ حتى يكونوا مؤمنين» / سورة يونس – الآية 99.
– «وجعلناكُم شعوباً وقبائلَ لِتَعارفوا» / سورة الحجرات – الآية 13.
– «مَنْ قتلَ نفساً بغيرِ نفْسٍ أو فَسَادٍ فـي الأرضِ فكأنَّما قتَلَ النَّاسَ جميعاً، ومَنْ أحياها فكأنِّما أحيا النَّاسَ جميعاً» / سورة المائدة – الآية 32.
– «وَعِبادُ الرَّحمنِ الذين يَمشونَ على الأرضِ هَوْناً وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلونَ قالوا سَلاماً» / سورة الفرقان – الآية 63.
– «وَمَا أرْسَلْناكَ إلا رَحْمَةً للعالمين» / سورة الأنبياء – الآية 107.
هذه نماذج قليلة من كثيرٍ ممّا ورد فـي القرآن الكريم الذي يكرّر المسلمون قراءته (بل حفظه أحياناً) فـي شهر رمضان المبارك من كلّ عام. لكن الهوّة سحيقة أيضاً بين من يقرأون، وبين من يفقهون ما يقرأون.. ثم بين من يسلكون فـي أعمالهم ما يفقهونه فـي فكرهم!.
Leave a Reply