صبحي غندور
ما يحدث حاليّاً فـي عدد من البلاد العربيّة هو امتحان جدّي وصعب لهذه الأوطان من حيث قدرتها على التّعامل مع الشّروخ والانقسامات الّتي تنتشر كالوباء فـي جسمها الواهن، وما فـيه أصلاً من ضعف مناعة.
صحيح أنّ هناك قوى خارجيّة تعمل على تأجيج الصّراعات الدّاخليّة العربيّة، وأنّ هناك مصلحة أجنبيّة وإسرائيليّة فـي تفكيك المجتمعات العربيّة، لكن العطب أساساً هو فـي الأوضاع الدّاخليّة الّتي تسمح بهذا التدخّل الخارجي، الإقليمي والدولي.
إنّ البلاد العربيّة لا تختلف عن المجتمعات المعاصرة من حيث تركيبتها القائمة على التّعدّديّة فـي العقائد الدّينيّة والأصول الإثنيّة، وعلى وجود صراعات سياسيّة محليّة. لكن ما يميّز الحالة العربيّة هو حجم التّصدّع الداخلي فـي أمّة تختلف عن غيرها من الأمم بأنّها أرض الرّسالات السماويّة، وأرض الثّروات الطّبيعيّة، وأرض الموقع الجغرافـي الهام. وهذه الميزات الثلاث كافـية لتجعل القوى الأجنبيّة تطمح دائماً للاستيلاء على هذه الأرض أو التحكّم بها والسّيطرة على مقدّراتها.
فالمنطقة العربية هي حالة فريدة جداً بين مناطق العالم، فهي صلة وصل بين «الشمال» و«الجنوب»، وبين «الشرق» و«الغرب»، وبين قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا، وهي أيضاً مهبط الرسالات السماوية وأرض الحضارات القديمة، ومن تلك الأرض: أرض العرب، خرجت حضارة إسلامية وعربية امتدّت لشرق آسيا وغرب أوروبا وساهمت فـي إطلاق شعلة النهضة الأوروبية. وعلى أرض العرب أيضاً ثروات طبيعية ومصادر للطاقة العالمية تجعلها هدفاً دائماً للسيطرة والأطماع الأجنبية.
وستبقى هذه المنطقة العربية ساحة صراع لقوى النفوذ الدولي والإقليمي، وسترتجّ أرضها لدى أي اختلال يحدث فـي ميزان القوى الذي يتحكم بالعالم اليوم، ولا يمكن لهذه المنطقة ككل أو لأجزاءٍ منها أن تختار السلامة والأمن عن طريق العزلة، فهناك حتمية الصراع الدولي والإقليمي على هذه المنطقة وموقعها وثرواتها، لكن ليس هناك حتمية لنتائج هذه الصراعات، فالأمر يتوقّف أصلاً على حال العرب وعلى مدى الحصانة والمناعة فـي جسمهم الوطني والقومي.
إنَّ حال الضعف العربي المتراكم فـي العصر الحديث هو بناء تدريجي قام على انعدام التوافق على مفهوم «الأمّة» بعد انتهاء حقبة الحكم العثماني، وتجزئة المستعمر الأوروبي بالتالي للمنطقة العربية وقيام أوطان ضعُف فـيها الولاء الوطني الواحد وسادت فـي معظمها أوضاع انقسامية طائفـيّة وقبليّة، فامتزجت التجزئة بين البلدان العربية مع الانقسامات الداخليّة فـي الأوطان.
وحينما يقع أيّ بلد عربي فـي أزمة أو مواجهة مع طرفٍ خارجي، يتساءل أبناء هذا البلد: «أين العرب»، لكنّهم لا يتساءلون قبل الأزمة أو بعدها : «لِمَ لا يكون هناك اتحادٌ عربي أو بالحدّ الأدنى تكاملٌ عربي»!!.
وقد كان ممكناً أن تعيش البلاد العربيّة ظروفاً أفضل لو كانت المشكلة حصراً فـي غياب التنسيق والتضامن فـيما بينها، لكن عمق الأزمة الرّاهنة يكمن فـي تراكم التجزئة مع استمرار الخلل فـي البناء الدّاخلي، إنْ كان ذلك على الصعيد السياسي والدستوري أو فـي الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية حيث الفقر وندرة العدالة وارتفاع نسبة الأميّة ومحدوديّة فرص العمل وزيادة هجرة الكفاءات لخارج الأوطان العربية.
وهناك الآن فـي المنطقة العربية حالة شبيهة بما حدث فـيها فـي مطلع القرن العشرين من سعي أجنبي للهيمنة عليها وعلى مقدّراتها. وهناك مشاريع إسرائيلية وأجنبية لعددٍ من بلدان المنطقة يقوم على تفكيكها وإعادة تركيبها بأطر سياسيّة جديدة تحمل الشكل «الفـيدرالي الديمقراطي»، لكنّها تتضمّن بذور التفكّك إلى كانتونات متصارعة وذلك فـي ظلّ الانقسامات الداخليّة والدور الإسرائيلي الشغّال على الجانبين «الغربي» والمحلي العربي، لدفع الواقع العربي إلى حروب أهليّة عربيّة شاملة تنتهي بتقسيم الأوطان والشعوب.
إنَّ إسرائيل هي فـي قلب المنطقة العربية ولها طموحات إقليميّة خاصة تتجاوز حتّى المشاريع «الغربية» وضرورات توافق الرؤى مع واشنطن. فلا يعقل أن تكون إسرائيل فاعلة فـي أميركا وأوروبا وإفريقيا وشرق آسيا، ولا تكون كذلك فـي محيطها الإقليمي الذي منه انتزعت الأرض، وعليه تريد بناء دولتها الإقليمية العظمى.
لكن هل يجوز إلقاء المسؤوليّة فقط على «الآخر» الأجنبي أو الإسرائيلي فـيما حدث ويحدث فـي بلاد العرب من فتن وصراعات طائفـيّة وإثنية؟! أليس ذلك تسليماً بأنّ العرب جثّة هامدة يسهل تمزيقها إرباً دون أي حراك أو مقاومة؟
إنّ إعفاء النّفس العربيّة من المسؤوليّة هو مغالطة كبيرة تساهم فـي خدمة الطّامعين بهذه الأمّة والعاملين على شرذمتها، فعدم الاعتراف بالمسؤوليّة العربيّة المباشرة فـيه تثبيت لعناصر الخلل والضّعف وللمفاهيم الّتي تغذّي الصّراعات والانقسامات.
إنّ معظم المنطقة العربية يعيش الآن مخاطر التهديد للوحدة الوطنية كمحصّلة لمفاهيم أو ممارسات خاطئة لكلٍّ من الوطنية والعروبة والدين. وقد عانى العديد من الأوطان العربية، وما يزال، من أزمات تمييز بين المواطنين، أو نتيجة ضعف بناء الدولة الوطنية ممّا أضعف الولاء الوطني لدى الناس وجعلهم يبحثون عن أطر فئوية بديلة لمفهوم المواطنة الواحدة المشتركة.
إنّ غياب الولاء الوطني الصّحيح فـي معظم البلاد العربيّة مردّه ضعف مفهوم الانتماء للوطن وسيادة الانتماءات الفئويّة القائمة على الطّائفـيّة والقبليّة والعشائريّة. ويحصل الضّعف عادةً فـي الولاء الوطني حينما تنعدم المساواة بين المواطنين فـي الحقوق السّياسية والاجتماعيّة، وحينما لا تكون هناك مساواة أمام القانون فـي المجتمع الواحد.
شّعوب كثيرة فـي «شرق» الأرض و«غربها»، وفـي «شمالها» و«جنوبها»، خلُصت إلى قناعة بضرورة نبذ العنف بين بلدانها وداخل مجتمعاتها الخاصّة، وباعتماد النّهج الديمقراطي فـي الحكم والعلاقات بين المواطنين والأوطان، بينما للأسف تزداد ظواهر الانقسام والعنف الدّاخلي فـي أرجاء المنطقة العربية، وتتعمّق المفاهيم و«الهويّات» الإنشطارية فـي كل أرجاء الأمَّة على حساب «الهوية العربية» المشتركة!.
المجتمعات الأوروبيّة أخذت بخلاصات الفـيلسوف المسلم ابن رشد ومدرسته العقلانيّة، وبما أنتجته الحضارة العربيّة والإسلاميّة فـي الأندلس، بينما المجتمعات العربيّة تعود الآن فـي بعض مفاهيمها والكثير من سلوكيّات شعوبها إلى عصر الجاهليّة بكل معانيه!
البلدان الأوروبيّة اختارت الحفاظ على خصوصيّاتها الوطنيّة والثّقافـية ضمن مظلّة التكامل والتوحّد القارّي الأوروبي، فلم تجد ضرراً فـي الجمع بين الهويّة الوطنيّة وبين التكامل الأوروبي. بينما البلدان العربيّة الّتي تجمعها الهُويّة الثّقافـية العربيّة الواحدة، تنحدر نحو التّمزّق الداخلي وتغليب الفئويّات الضّيّقة المصطنعة على الأفق الطّبيعي المشترك.
الشّعوب الأوروبيّة خلصت إلى قناعة بضرورة نبذ العنف بين بلدانها وداخل مجتمعاتها الخاصّة، واعتماد النّهج الديمقراطي فـي الحكم والعلاقات بين المواطنين والأوطان، بينما تزداد ظواهر العنف الدّاخلي فـي أرجاء المنطقة.
إنّ الحروب الأهليّة هي طاحونة الأوطان فـي كل زمان ومكان. وهاهي المجتمعات العربيّة أمام تحدٍّ خطير يستهدف كل من وما فـيها. هو امتحان جدّي لفعل المواطنة فـي كل بلد عربي إذ لا يمكن أن يقوم وطن واحد على تعدّدية مفاهيم المواطنة. وحينما يسقط المواطن فـي الامتحان يسقط الوطن بأسره.
هي الآن مرحلة حاسمة ليس فقط فـي «تاريخ» العرب، بل أيضاً فـي «جغرافـية» أوطانهم وفـي «هويّتهم» وفـي مستقبل أجيالهم.
Leave a Reply