صبحي غندور
ربّما لا نجد إنساناً على هذه الأرض إلاّ وشعر فـي يومٍ ما أنه تعرّض لما يمكن وصفه بـ«الطعن من الخلف»، وهو التعبير المجازي لحدوث أمر سيء من شخصٍ لم يكن متوقّعاً منه فعل هذا الأمر. وقد يكون ذلك «الطعن» قد حدث عبر كلام أو أفعال لكن النتيجة واحدة، وهي الشعور بالاستياء وخيبة الأمل من أشخاص لم تكن هناك أي مشكلة بيننا وبينهم، بل كانت هناك أواصر صداقة أو قرابة تربطنا بهم. ثمّ تكون الصدمة أكبر حينما يحدث هذا «الطعن» من أشخاص ساعدناهم فـي حياتهم العملية أو الشخصية ووقفنا معهم فـي أزماتهم، فإذ بهم ينقلبون على من فعَل الخير معهم ويسيئون إليه.
فـي التراث الأدبي العربي كثيرٌ من وصف هذه الحالات: «اتّقِ شرّ من أحسنتَ إليه» «إذا أنت أكرمْتَ الكريمَ ملكتَه، وإنْ أنت أكرمت اللئيمَ تمرّدا» «ومن يجعل المعروف فى غير أهله، يكن حمده ذمّاً عليه ويندم».. وهذا غيضٌ من فـيْض يحذّر الناس من فعل الخير مع من لا يستحقّونه. لكن كيف يمكن معرفة من يستحقّ ومن لا يستحق، من دون حدوث الخير وتجربته مع الناس؟ ثمّ من قال إنّ فعل الخير هو كالتجارة التي تبغي الربح فـي عملية بيعٍ وشراء؟!.
فمهما حصل «طعنٌ من الخلف» فإنّ فعل الخير لا يجب أن يتوقّف، وهو ما نجد التشجيع عليه أيضاً فـي التراث الثقافـي العربي بأشكال مختلفة: «اصنع الخير فـي أهله وفـي غير أهله، فإن لم تجد أهله فأنت أهله» «ازرع جميلاً ولو فـي غير موضعه، فلن يضيع جميلٌ أينما صُنِع».
قال سبحانه وتعالى: «إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً» (سورة الكهف – 30).
وفـي الحديث النبوي الشريف: «إنّ لله عباداً اختصّهم بقضاء حوائج الناس، حبّبهم فـي الخير، وحبّب الخيرَ إليهم، إنّهم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة».
وهناك مثل شعبي يقول: «اعمل منيح وكبّ بالبحر».
وأذكر قولاً جميلاً للراهبة «الأم تريزا» التي قضت حياتها فـي خدمة المساكين والمحتاجين، وفـيه دعوة للناس باستمرار فعل الخير مهما كانت ردود فعل الآخرين على ذلك.
هذه هي الثقافة والمفاهيم التي نحتاج إلى ترسيخها فـي عقول ووجدان الجيل العربي الجديد بحيث يكون فعل وقول الخير أمراً مبدئياً لا يخضع إلى مساومات تجارية أو إلى شروطٍ مسبَقة.
أمثولة من القمر إلى البشر
حكاية البشر مع القمر هي حكاية الغزل والحب والجمال… فالقمر رمزٌ لكل وصفٍ جميل، لكنْ هل فكرنا مرَّةً واحدة فـي أمثولة هذا الشغف الإنساني المتواصل عبر التاريخ بكوكبٍ صخري، داسته أقدام الأميركي نيل أرمسترونغ ولم يجد عليه سوى صخورٍ سود!.
إنَّ الإعجاب الإنساني بالقمر لا يتأثّر بحجم ضوئه. فالهلال له جماله كما البدر الكامل. ودائماً نقول «سبحان الله ما أجمل القمر»! مهما كانت مساحة الضوء الظاهرة فـيه. فلو تمعنَّا بأمثولة العلاقة بين البشر والقمر وطبَّقناها على العلاقة بين البشر أنفسهم، فماذا يحدث؟
إنَّ النَّاس تنظر دائماً إلى «إيجابيات» القمر وترى فـيه الجانب المضيء فقط، ولا تسأل عن حجم مساحة الظلام بل تعشق هلاله كما تتغزّل فـي اكتماله.. وينسى الناس حتماً أنَّ البدر هو «كمال» نسبي للقمر حيث نصفه الآخر غير المرئي للأرض يسوده ظلام دامس. فالكمال لله وحده عزَّ وجلّ.
أمَّا على الأرض، فالبشر ينظرون إلى بعضهم البعض من رؤيةٍ مختلفة ومعاكسة تماما. إنَّ الهمّ الأول لبعض النَّاس هو الانتباه لما عند غيرهم من سلبيات وما فـيها من زوايا معتمة، وليس لما هنالك من إشعاع نور ولو بصيص محدود يستحيل انعدامه عند معظم الناس إنْ لم نقل كلّهم.
رؤية الآخر.. كإنسان!
لا يمكن فهم الإنسان بمعزل عن زمانه ومكانه وكذلك الجماعة. فالحياة هي دائماً تفاعل لحظة زمنية مع موقع مكاني وظروف محيطة تؤثّر سلباً أو إيجاباً على من هم -وما هو موجود- فـي هذه اللحظة وهذا المكان.
وما قد يراه فردٌ أو جماعة فـي لحظةٍ ما بالأمر السلبي قد يراه آخرون إيجابياً. والحال نفسه ينطبق على الاختلاف فـي المكان. حتّى بعض القيم والمفاهيم الإنسانية فهي رهينة الزمان والمكان. فما هو الآن من المحرّمات، كان من فترة زمنية أخرى من المباحات. والعكس صحيح أيضاً. كذلك بالنسبة للمسائل العلمية التي تتغيّر نتائج بعضها تبعاً لتغيّر نتائج التجارب.
إذن، هي ثلاثية «الزمان والمكان والظروف» التي تتحكّم فـي أفكار الإنسان وسلوكه ومعارفه. لكن مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة وما يحيط بها من ظروفٍ وأوضاع، فإنّ الإنسان يبقى هو الأساس والمحور فـي كلّ هذه التفاعلات، كما يكون هو دائماً قائد التغيير الذي يحدث.
وقد انقسم الناس فـي كلّ الأزمنة والأمكنة على أنفسهم بين «الأنا» و«الآخر». فكانت الصراعات بين الأفراد والجماعات والأمم تخضع لاختلاف الرؤى وتناقض المصالح بين من هو فـي موقع «الأنا» ومن هو فـي الموقع «الآخر». هكذا هي سيرة البشرية منذ تناقض مفاهيم ومصالح «قابيل» مع شقيقه «هابيل»، وكلاهما من أبناء آدم عليه السلام.
وغالباً ما يقع الناس فـي أحد محظورين: تسفـيه الإنسان الآخر والتعامل معه بأقلّ من قيمته كإنسان، فـيتمّ استعباده أو استغلاله أو التحكّم بمصادر رزقه، أو إهانة كرامته، لمجرّد التواجد فـي موقع آخر أقلّ قدرة أو أكثر حاجة فـي لحظة معينة أو ظروف محيطة بمكان محدّد. أمّا المحظور الآخر، فهو حينما ينظر الإنسان إلى بعض الناس وكأنّهم أكثر من إنسان آخر، كأن يقدّسوا هذا الإنسان أو يرفعوا من شأنه ومن قيمته إلى ما يفوق بشريته، مهما كان عليه من صفاتٍ كريمة أو طبيعة خاصّة.
فـي الحالتين: التسفـيه أو التقديس للإنسان الآخر، هناك ظلمٌ يحدث، فإمّا هو ظلم الإنسان للآخر من خلال تحقيره، أو هو ظلمٌ للنفس من خلال تقديس من هو بشرٌ مثلنا، مهما علا شأنه أو عظم دوره الفكري أو العملي فـي هذه الحياة. لذلك جاءت الرسالات السماوية واضحة فـي دعوتها للناس بعبادة إلهٍ واحد هو خالق كل شيء، وبالتأكيد على إنسانية الإنسان مهما ارتفع أو تدنّى فـي حدود القيمة الإنسانية. ونقرأ فـي القرآن الكريم قوله تعالى: «ولقد كرّمنا بني آدم»، وفـي ذلك ارتباط حتمي بين الإنسان عموماً فـي أي زمان ومكان، وبين الكرامة فـي الوجود والتكريم فـي الحياة والدور.
لكن أين هي هذه المفاهيم فـي واقع وسيرة الناس، أفراداً كانوا أم جماعاتٍ وأمما؟ صحيحٌ أنّ الرسالات السماوية وضعت الكثير من ضوابط السلوك الإنساني تجاه الآخر والطبيعة عموماً، لكن البشر الذين أكرمهم الله أيضاً بمشيئة الاختيار بين الخير والشر، بين الصالح والطالح، لا يحسنون دوما الاختيار، فتتغلّب لديهم الغرائز على القيم، والمصالح على المبادئ، والأطماع على الأخلاق. فتكون النظرة إلى «الأنا» قائمة على مدى استغلال «الآخر» وتسخيره، وليس على المشترك معه من مفاهيم وقيم إنسانية.
فكم من ربّ عمل يرى العاملين لديه وكأنّهم عبيد له، يستغلّهم ويحتقرهم ويسيء معاملتهم، فـيكون بذلك قد ظلم حقيقة نفسه كما هو يظلم غيره من الناس. وكم من حروبٍ وصراعاتٍ دموية حصلت وتحصل لمجرّد وجود الإنسان «الآخر» فـي موقع طائفـي أو مذهبي أو عرقي أو مناطقي مختلف، دون حتّى أي معرفة مباشرة بهذا الإنسان «الآخر»!! وكم يخطئ أيضاً من يرفض وجود «الآخر» فـي العائلة الواحدة فـيريد من أولاده أو أفراد عائلته أن يكون كلٌّ منهم نسخةً طبق الأصل عن «أناه» فـي الفكر والسلوك والمهنة أحياناً!!
فنفـي وجود «الآخر» ونكران حقوقه هي مشكلة من لا يرى فـي الوجود إلا نفسه، ومن لا يرى فـي الآخر إنساناً له حقّ التكريم الذي منحه إيّاه الخالق تعالى، ولا يمكن أن تنزعه عنه إرادة أيٍّ من البشر.
Leave a Reply