الشيخ باقر بري
ليس ثمة محاولات كثيرة لعصرنة خطاب المنبر الإسلامي وجعله صالحاً لتحفيز المسلمين على تطوير حياتهم الحاضرة وتقدمهم في المجتمعات التي يعيشون فيها فكرياً وحضارياً وسياسياً، فالمتتبع لهذا الخطاب يجد نفسه أمام خطاب غارق حتى أذنيه في التكرار والاجترار ومنقطع عن وقائع الحياة وتحدياتها وتطوراتها المتسارعة.
وتذكرني حال هذا الخطاب بقولة معروفة لإبراهام لينكولن، رئيس أميركا الشهير إبان الحرب الأهلية الأميركية، قالها بعد خروجه من أحد كنائس العاصمة واشنطن اثر استماعه إلى محاضرة هناك، فقد سأله مرافق له: حضرة الرئيس ما رأيك بخطبة القس غورلي لهذه الليلة؟
حسناً، أجاب لينكولن: لقد قالها بفصاحة وأداها ببراعة واستند فيها إلى الإنجيل.
– إذن كانت خطبة عظيمة؟
لا، أجاب لينكولن: لقد كانت خطبة فاشلة، فشلت لأن القس غورلي لم يطلب منا أن نقوم بعمل عظيم ما.
وما أراده لينكولن هنا أنه مهما علا مستوى الفصاحة في الكلمة واستندت إلى النصوص المقدسة أو برع الخطيب بأدائها، فما لم تحمل خطبة الخطيب دعوة واضحة إلى عمل ايجابي ما أو تغيير عظيم ما، فإن هذه الخطبة تعتبر فاشلة بل حتى غير مؤهلة لتحفيز الناس على الاهتمام بالدين..
/
وقد تسألني: لماذا استعين هنا بقصة وحكمة من التراث الأميركي؟ لما لا أستعين بقصة من التراث الإسلامي؟ وما الغضاضة في ذلك، فالنصوص الدينية الإسلامية تشجعنا بشكل واضح على ان نتطلب الكلمة الحكيمة والفكرة الرائعة بغض النظر عن مصدرها، كالحديث المنقول عن رسول الله: كلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها [١] وفي نص آخر عنه أنه قال: خذ الحكمة ولا يضرك من أي وعاء خرجت [٢].
وبغض النظر عن هذه الحكمة المستقاة من التراث الأميركي، تعالوا ننعم النظر قليلاً في شأن القرآن الكريم، ليس في النص بحد ذاته، بل في المقاربة والإسلوب والمنهاج، إذ أننا لا نتعلم من القرآن الكريم نصوصه فقط، بل نأخذ منه أيضاً أساليبه ومناهجه التي اقترب بها من الإنسان.
وبخصوص أحد أهم هذه الأساليب فقد أكد الباحثون والمحققون في محله في أبحاث تاريخ القرآن وعلومه، أن القرآن الكريم لم ينزل على نبي الإسلام محمد جملة واحدة، بل نزل نجوماً، أي شيئاً بعد شيء، يتابع أحياناً، ويبطىء أحياناً أخرى حسب الأسباب الحادثة…
ويعنون بالأسباب الحادثة أن هناك ظروفاً وقضايا وتحديات كانت تحصل في أجواء الدعوة الإسلامية وفي واقع الناس المدعوين وقتها، وكانت هذه الأمور تتطلب بياناً إلهياً يبين موقف الدين الإسلامي تجاهها، فكان الوحي ينزل على الرسول ويأمره بتبليغ خطاب السماء في كل ما يتناسب وهذه الحوادث أو يتعلق بها.. ولقد وضع علماء التفسير علما أسموه علم أسباب النزول، أو شأن النزول، وهو أحد العلوم الإسلامية الذي يعنى بمعرفة أسباب نزول الآيات القرآنية أو مناسبات ورودها، والقضايا والحوادث المتعلقة بهذه الآيات، وكذلك وقت ومكان نزول الآية بغرض معرفة تفسيرها وفهمها فهماً صحيحاً، ومعرفة الحكمة من الأحكام القرآنية.
والسؤال: ما هو يا ترى ما نستفيده من هذا المنهاج القرآني وما هي الحكمة التي نستوحيها؟
/
نستوحي أن الخطاب الديني للإسلام ارتكز في نصوصه التأسيسية على الواقع الإنساني بكل معطياته وأبعاده. وكما هو واضح فقد ارتبط هذا الخطاب مع هذا الواقع بعلاقة جدلية تبادلية، تنطلق من الواقع وأسبابه وتحدياته لتعود إلى النص، ومن ثم تتنزل الآيات القرآنية شيئاً بعد شيء بالأفكار الرائعة والتوجيهات الحكيمة التي تلامس حياة الإنسان وواقعه الخارجي. وهكذا تعالج هذا الواقع بالإرشاد والهداية والتنوير دافعة به إلى الإرتقاء الحقيقي والى التطور والتغيير، فيما تبقى هذه الآيات الرائعة بأفكارها وأحكامها وتوجيهاتها متعالية على الظروف والأمكنة لتشكل منارات موزعة على شواطىء الزمن.
وهكذا كان الخطاب الإسلامي خطاباً حياً، وخطاباً عظيماً، لأنه كان خطاباً هادفاً ينبع من مراعاته للواقع الخارجي، وأيضاً من التدرج في الإصلاح والتغيير، ومن ملامسته للمشاكل والتحديات والقضايا الحية في المجتمع، وكذلك من اختياره للفكرة المناسبة والإرشاد المناسب للموقع المناسب والظروف والبيئة المناسبتين. لذا تحرك الواقع العربي في زمن الرسالة الأول تحركاً حضارياً سريعاً، على ضوء آيات القرآن الكريم والخطاب الإسلامي المناسب، ليتأثر انسان ذلك العصر وذلك المجتمع شيئا فشيئا، وليتحرر عقله، ولتزكو نفسه، ولتنبعث فيه يقظة عميقة أنتجت حضارة روحية ومادية عظيمة، استمرت لقرون عديدة. وقد ثبت في التاريخ أن هذا الخطاب استطاع في فترة زمنية قياسية، لا تتجاوز ٢٣ عاماً، وهي عمر البعثة النبوية الشريفة، أن ينقل مجتمعاً بدوياً أمياً نقلة نوعية فيحول أبناءه من رعاة غنم إلى قادة أمم…
/
ولنمعن النظر أيضاً في منهاج قرآني آخر قارب فيه الخطاب القرآني فترتين مختلفتين من عمر الرسالة الإسلامية. فقد لاحظ علماء التفسير بالمقارنة بين الآيات القرآنية أن خصائص الآيات التي نزلت على الرسول في مكة قبل الهجرة إلى المدينة تختلف عن خصائص الآيات التي نزلت عليه في المدينة، ومن هنا اتفقوا على تقسيم القرآن الكريم إلى سور وآيات مكية، والى سور وآيات مدنية، فمن خصائص الخطاب المكي مثلاً مناسبته للواقع الموضوعي الذي كانت تعيشه الدعوة في مكة، فلم تكن الناس قد آمنت بعد، لذا لم يكن هذا الخطاب موجها للمسلمين فحسب بل ركزت مادته تركيزاً واضحاً في تلك المرحلة على دعوة الناس جميعاً، وغلب على السور المكية استعمال السور القرآنية لنداء: «يا آيها الناس»، وهو في مصطلح القرآن خطاب يخاطب به تعالى الناس والبشر جميعاً، المؤمن منهم برسالة الإسلام والمنكر لها..
وباختصار، وإن كانت الآيات القرآنية تسمو عن المكان ولا تتعلق بزمان معين، ولكن الفروق والميزات التي تلاحظ بين القسم المكي من القرآن الكريم والقسم المدني منه، توحي بشكل واضح بأن الخطاب الديني التأسيسي للإسلام راعى ظروف الواقع الموضوعي، وركزت مادته والموضوعات التي عنى بها على ظروف هذا الواقع وعلى الأجواء التي نزل فيها الوحي، وأن هذا الخطاب حيث كان المجتمع ينقسم إلى مسلمين وغير مسلمين، بقي في كل مرحلة وفي كل مكان خطابا مراعيا وخطاباً إنسانياً شاملاً يدعو إلى الرحمة بالعالمين، يخاطب المسلمين تارة ويخاطب غيرهم تارة أخرى، ولا بد أن أسلوب المراعاة هذا كان بقصد التأثير في هذه الأجواء والتغيير فيها وتطويرها لصالح الدعوة ولصالح الإنسان..
/
هذا هو منهاج القرآن الكريم، ومن هنا يحتاج الخطاب الديني اليوم، أن يستفيد من المنهاج القرآني هذا، وأن يعمل على نسقه. يحتاج هذا الخطاب إلى تحديد الظروف التي يمر فيها مجتمعه، ادراك مقتضيات المكان والزمان، وتقويم المرحلة ودراسة أوضاع المجتمعات التي يتحرك فيها، الخصائص والتحديات السياسية والثقافية، ومعرفة العقول التي يخاطبها، الأفكار والمستويات والتيارات والتوجهات الموجودة، لينطلق هذا الخطاب من مواد وموضوعات مدروسة، فليس كل فكرة –وإن كانت صحيحة– صالحة للعرض في كل زمان ومكان، وهذا هو عمل المفكر الديني اليوم، أن يجترح من النص المقدس لكل مرحلة توجيهاتها ومعالجاتها الصالحة للعرض، أن يحرك عقله ليقرأ مجتمعه وأزماته وأفكاره، أن يمارس فكره لتقدير الفكرة والتوجيه المناسبين، وهذا لا يكون فقط من مجرد قدرته على فقه النص، بل لا بد له بالإضافة إلى ذلك من فقه الواقع الذي يعيش فيه، أن يمتلك فهما وثقافة بهذا الواقع، وأن يمتلك خطاباً إنسانياً، ومستوى من الخطاب الذي يؤهله لمخاطبة الناس جميعاً، وليس أبناء دين بعينه أو أتباع مذهب بعينه.
/
للأسف فإن أكثر من يمارس الخطابة الإسلامية بيننا اليوم هم دعاة اتباعيون، وبعضهم منقطعون تماماً عن واقعهم وتحدياته، ومحصورون داخل النص، وهم نتيجة لذلك يقعون في الروتين في الخطابة، وتتناول كلماتهم موضوعات محدودة تكاد دون قصد تضجر المستمعين، وتحنط هذا الدين العظيم وتفقده حيويته وتأثيره في حياة الناس وفي الواقع الاجتماعي والسياسي الواسع، وجانب من هؤلاء يتقنون فن دغدغة العواطف المذهبية ولا يملكون خطاباً إنسانياً راقياً ومعاصراً.. ناهيك عن المتخصص منهم في التحريض والتكفير وإثارة الخلافات الطائفية… وفي الحق فإن الفجوة اليوم ليست بين الإسلام والواقع، ولكنها بين عقول بعض الدعاة والإسلام من جهة، وبين عقول هؤلاء والواقع من جهة اخرى، فلا هؤلاء بقادرين على استيعاب عالمية الإسلام ومرونة نصوصه وإنسانية رسالته، ولا هم منتمون إلى عصرهم وعالمون بزمانهم. ولقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: إن العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس [٣]. وروي عن الإمام علي عليه السلام أيضا أنه قال: حسب المرء… من عرفانه، علمه بزمانه [٤].
إن العالم بزمانه لا يكتفي فقط بمجرد قدراته ومهاراته اللغوية والأصولية على فهم النصوص، بل لا بد له ايضا من ان يتزود بأدوات فهم الواقع وان يكون فهما وثقافة بهذا الواقع، وأن يستعين في عصرنا الراهن بالعلوم الإنسانية الحديثة التي تدرس واقع الإنسان المعاصر وأفكاره وأزماته، والتي تمدنا كل يوم بجديد عن احوال المجتمعات وما يحصل فيها من تحديات وأزمات… وفي الحقيقة لا يمكن للخطاب الإسلامي ان يصارع الأفكار والتيارات الحديثة ويطور أحوال المسلمين ويوجههم ويحصن أفكارهم والتزامهم الديني دون أن يستوعب اللحظة الثقافية المهيمنة.. وسواء شئنا أم أبينا إتفقنا أم اختلفنا فنحن نعيش في خضم الثقافة الغربية العلمانية وهي المهيمنة اليوم بقيمها وعلومها وأفكارها، وبمعارفها ونظمها وسياساتها. هذا هو النموذج السائد فكريا وحضاريا في العصر الحديث، لا في الغرب وحسب وإنما على مستوى العالم بأسره، وهناك حاجة اليوم للإطلاع العميق على هذا النموذج وعلى منجزاته الفكرية والعلمية، ولا بد للخطاب الإسلامي أن يمتلك فهماً ووعياً وثقافة بهذا النموذج تؤهله لمخاطبة الناس بما ينفعهم ويلزمهم في هذا المحيط الثقافي، عند ذلك سيتغير هذا الخطاب ليصبح خطاباً عصرياً ناجحاً وقد يستطيع حقاً أن يجلي صورة الدين ويجذب الناس إليه ويحفز المسلمين على النهضة والتغيير..
١. ميزان الحكمة – ٢
٢. محمد الريشهري العلم والحكمة في الكتاب والسنة، ص٢٤٥.
٣. الكافي، الشيخ الكليني، ج١، ص ٢٧.
٤. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج ٧٥، ص ٨٠.
Leave a Reply