مأساة الأمَّة العربية تكبر يوماً بعد يوم، ليس بسبب ما يحدث فيها وعلى أرضها من مآسٍ متنوعة فقط، بل نتيجة ما يخرج منها من كفاءات وأموال وأدمغة، بينما نجد أنَّ التكامل الحاصل بين الولايات الخمسين الأميركية، يجعل صاحب الكفاءة أو رجل الأعمال الأميركي يهاجر من ولايةٍ ما، إذا ما اضطربت اجتماعياً أو أمنياً أو اقتصادياً، إلى ولايةٍ أميركية أخرى.. كذلك الحال الآن بين دول الاتحاد الأوروبي. فهي أمم تحتفظ بأدمغتها وأموالها وبشبابها وخبراتها، فلا تنضب ولا تُهاجر ثرواتها المادية والبشرية!
ولقد توفَّرت للمهاجرين العرب إلى الغرب، فرصة العيش المشترك فيما بينهم بغضِّ النظر عن خصوصياتهم الوطنية، وبالتالي تيسّر إمكان بناء النموذج المطلوب لحالة التفاعل العربي في أكثر من مجال. أيضاً أتاحت لهم الإقامة في الغرب فرص الاحتكاك مع تجارب ديمقراطية متعدّدة من الممكن الاستفادة منها عربياً في الإطارين الفردي والمجتمعي. لذلك فإنّ للمهاجرين العرب خصوصية مميّزة في عملية الإصلاح العربي المنشود، لكن للأسف، فإنّ معظم المهاجرين العرب يعيشون الآن محنة ارتجاج وضعف في هويّتهم العربية وفي هُويّة بلد الهجرة نفسه. فالمهاجرون العرب، أينما وُجِدوا، ينتمون عملياً إلى هويتين: هويّة أوطانهم العربية الأصلية ثمّ هويّة الوطن الجديد الذي هاجروا إليه. وقد تفاعلت في السنوات الأخيرة، خاصّة عقب أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، جملة تطوّرات انعكست سلبياً على الهويتين معاً. وقد عانى الكثير من العرب في الغرب من هذا الشعور السلبي حيالهم وحيال كل ما يمتّ بصلة إلى العرب والعروبة والإسلام.
الأخطر من ذلك عند المهاجرين العرب، هو التشكّك الذاتي الحاصل لدى بعضهم في هويّته الأصلية العربية، ومحاولة الاستعاضة عنها بهويّات فئوية بعضها ذو طابع طائفي ومذهبي، وبعضها الآخر إثني أو مناطقي أو في أحسن الحالات إقليمي. وهذا مردّه إلى ما يحدث من تراجع وضعف في مسألة «الهويّة العربية» وطغيان الانقسامات وسمات مجتمع «الجاهلية» على معظم المنطقة العربية، وانعكاس هذا الأمر على العرب عموماً، في داخل الأوطان العربية وخارجها.
وحينما تصل سيدة أميركية خلال الحملة الانتخابية الرئاسية للعام 2008 إلى حدّ توصيف باراك أوباما بأنّه «عربي» وبأنها من أجل ذلك «لا تثق به»!، فإنّ ذلك خير دلالة على مدى الجهل المهيمن على معظم الأميركيين في مسائل الشعوب الأخرى وثقافاتها، وفي الخلط الذي يحدث داخل المجتمع الأميركي بين كل عربي ومسلم، وفي عدم التمييز بين الدين والجماعات السياسية والهويات الثقافية والوطنية.
هو جهل أميركي وغربي مدعوم منذ عشرات السنين بحملات التشويه والسلبية ضدّ العرب والإسلام، ثمّ جاءت الأعمال الإرهابية في 11 سبتمبر وما بعدها لتعطيه زخماً كبيراً من الخوف والحذر وعدم الثقة بكل ما هو شرقي أو عربي أو إسلامي.
ورغم الدور الهام الذي تقوم به مؤسسات وجمعيات ومراكز عربية وإسلامية في الردّ على هذا التشويه وفي نشر المعرفة السليمة عن العرب والإسلام، فإنّ هناك انعداماً لتوازن القوى والإمكانات والعدد بين ناشري «الجهل» وبين الساعين لتعميم المعرفة السليمة.
لكن أيضاً، فإنّ تراجع الهوية العربية ساهم حتماً في ضعف دور العرب داخل دول الغرب، وفي مسؤوليتهم المنشودة عن نشر المعرفة الصحيحة المتعلقة بالعرب والإسلام وبالقضايا العربية، لأن «فاقد الشيء لا يعطيه»، ولا يمكن أن ينجح العرب في الغرب بنشر الحقائق عن أصولهم الثقافية القومية والحضارية الدينية إذا كانوا هم أنفسهم يجهلونها، بل ربّما يساهم بعضهم من المتأثّرين سلباً بما هو سائد الآن من تطرّف بالمفاهيم الدينية والإثنية، في نشر المزيد من الجهل وفي تأجيج المشاعر السلبية بين الشرق العربي والإسلامي وبين الغرب العلماني والمسيحي.
الملامة هنا لا تقع على المهاجرين العرب أنفسهم وحسب بل على المناخ الانقسامي السائد في معظم البلدان العربية، وعلى سيادة الأفكار والتصريحات التي تفرّق بين أبناء المنطقة العربية ولا توحّد. فاللوم أوّلاً وأخيراً يقع على الأوطان الأصلية التي يهاجر الشباب العربي منها بكثافة كبيرة، والتي تظهر فيها وتنمو جماعات التكفير والرفض للآخر، والتي تتحمّل الحكومات القائمة فيها أيضاً مسؤولية تردّي الأوضاع والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية ممّا يزيد من توفير البيئة المناسبة لجماعات التكفير في الداخل، وللتشجيع على الهجرة إلى الخارج.
فالفهم الخاطئ للعروبة والدين هو أيضاً حالة مرضية قائمة الآن في المجتمعات العربية كما هي علّة مستديمة في المجتمعات الغربية.
***
إنّ الدور المنشود من قبل المهاجرين العرب يُحتّم عليهم أولاً تحسين وإصلاح ما هم عليه الآن من خلل في مسألة الهوية، ومن ضرورة عدم السلبية تجاه مؤسسات العمل العربي المشترك في الغرب.
ولا أعلم لِمَ لا يستفيد المهاجرون العرب من تجارب سابقة في الهجرة العربية للغرب، كان في مقدّمتها في مطلع القرن العشرين تجربة الأدباء العرب ذوي الأصول اللبنانية، الذين استوطن في معظمهم بمدينة نيويورك الأميركية وشكّلوا فيما بينهم «الرابطة القلمية» بمبادرة من الكاتب والمفكر جبران خليل جبران، حيث كانت هذه «الرابطة» نموذجاً لما نحتاجه اليوم في دول المهجر من منتديات وروابط وجمعيات تقوم على أساس المشترك من الهُوية الثقافية والاهتمامات والعمل، لا على الأصول الوطنية والطائفية والمناطقية. فعلى الرغم من أنّ كل أولئك الأدباء الذين جمعتهم «الرابطة القلمية» كانوا من أصول لبنانية ودينية مسيحية فإن «رابطتهم» كانت الأدب العربي، فلم يجتمعوا أو يعملوا في أطر فئوية، ولم يُطلقوا على أنفسهم اسم «الرابطة اللبنانية» أو «الرابطة المسيحية». فكان «قلمهم» من أجل نهضة أوطانهم ووحدة شعوبهم، ومن أجل الإنسان عموماً بغضَّ النظر عن العنصر والدين. كذلك فعل أدباء المهجر آنذاك في أميركا الجنوبية حيث أسّسوا «الرابطة الأندلسية» التي برزت فيها أسماء رشيد سليم الخوري وفوزي المعلوف وآخرين.
وفي فترة زمنية متقاربة مع فترة تأسيس «الرابطة القلمية» في نيويورك، حدثت تجربة الإصلاحي الإسلامي الشيخ محمد عبده من خلال تأسيس مجلة «العروة الوثقى» في باريس. وكما حرص الشيخ محمد عبده على توظيف منبره (العروة الوثقى) لإصلاحيين ومفكرين آخرين، كان في مقدّمتهم الشيخ جمال الدين الأفغاني، كذلك كانت «الرابطة القلمية» التي أسّسها جبران منبراً لعدد مهمّ من المفكرين والأدباء كميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي. فهذا النموذج من المهاجرين العرب أدرك واجبه ومسؤوليته في إصلاح المجتمع الذي هاجر منه، وفي المساهمة الفكرية والعملية بتقديم المشروع النهضوي المطلوب، وفي جعل بلد المهجر مصنعاً لخميرة إيجابية جيّدة وجديدة، لا مرآةً تعكس سلبيات الأوطان التي هاجروا منها. ولم يجد أولئك في «الآخر» منهم منافساً بل مكمّلاً لعطائهم. تعلّموا الكثير من بلدان الغرب لكن لم يفقدوا هُويّتهم ولا نسوا أوطانهم. بل حافظوا على لغتهم وثقافتهم في بلاد المهجر، وكانوا فاعلين إيجابيّين أيضاً في مجتمعاتهم الجديدة. كان همّهم الأول في «الشرق» وإن كان تواجدهم في «الغرب». استفادوا من حسنات المكان لكي يساهموا في تغيير سيّئات زمن أوطانهم.
ولعلّ المنطقة العربية هي حالة فريدة جداً بين مناطق العالم، فهي صلة وصل بين «الشمال» و«الجنوب»، وبين «الشرق» و«الغرب»، وبين قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا، وهي أيضاً مهبط الرسالات السماوية وأرض الحضارات القديمة، ومن تلك الأرض: أرض العرب، خرجت حضارة إسلامية وعربية امتدّت لكلّ الجهات الأربع وساهمت في إطلاق شعلة النهضة الأوروبية. وعلى أرض العرب أيضاً ثروات طبيعية ومصادر للطاقة العالمية تجعلها هدفاً دائماً للسيطرة وللأطماع الأجنبية.
وستبقى هذه المنطقة العربية ساحة صراع لقوى النفوذ الإمبراطوري، وسترتجّ أرضها لدى أي اختلال يحدث في الميزان الدولي القائم على علاقات «الشرق» و«الغرب» أو على تباينات «الشمال» و«الجنوب».
ولا يمكن لهذه المنطقة ككل، أو لأجزاء منها، أن تختار السلامة والأمن والتقدّم عن طريق العزلة، فهناك حتمية التنافس الدولي على هذه المنطقة وموقعها وثرواتها، لكن ليست هناك حتمية لنتائج هذه الصراعات، فالأمر يتوقّف أصلاً على مدى الاختلال الحاصل في الميزان العربي، وهو الآن يشهد اختلالاً كبيراً في المجالات كلّها.
إنّ غياب العمل الفكري والسياسي السليم لمواجهة ما هو واقعٌ مرفوض ولبناء ما هو مستقبلٌ منشود، يعني دعوةً للآخرين إلى التحكّم بمصائر الواقع والمستقبل معاً.
فما أحوج الأمَّة العربية اليوم إلى «عمل نهضوي عربي شامل» يشترك فيه مجموعة من أبنائها المقيمين في بلاد العرب مع المنتشرين منهم في بقاع العالم، ليشكّلوا معاً روّاد النهضة وطلائع الإصلاح المتوجّب لأوطانهم وأمَّتهم.
Leave a Reply