واشنطن – السياسات الأميركية في عهد ترامب أدت إلى تباعد ونفور عدد من حلفاء واشنطن، لاسيما الأوروبيين منهم، ورغبتهم التوجه شرقاً لتفاهم أوسع مع روسيا الاتحادية؛ خاصة بعد بروز «مناوشات كلامية» مباشرة بينه والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركي، والتي لم تكن حديثة الولادة بل ظهرت على السطح منذ الأيام الرئاسية الأولى لترامب.
التغيرات الدولية المتسارعة والتي أدت لتراجع مكانة وهيبة الولايات المتحدة في بعض الأقاليم حفزت المؤسسة العسكرية والاستخباراتية السعي «لترميم» ما اختل من موازين قوى؛ والمراهنة على دفع ترامب لتعزيز دورها في صنع القرار على قاعدة العداء التاريخي المتأصل ليس لروسيا فحسب، بل لأية قوة منافسة على المستوى العالمي.
قرار ترامب بالتحدث مع روسيا جاء اتساقاً مع وعوده الانتخابية، في المجمل، للانفتاح على روسيا والصين؛ بيد أن ما كانت تضمره المؤسسة الحاكمة هو كيفية تطويع ترامب للتساوق مع رغباتها بإشهار حالة العداء لروسيا وفتح المجال أمام سباق التسلح لإرضاء اللوبيات الصناعية والمصرفية المتعددة.
جاء أداء الرئيس ترامب في هلسنكي مغايراً للتوقعات على نحو غير مسبوق في التاريخ الأميركي، لاسيما إدانته للمؤسسة الأمنية والاستخباراتية الأميركية من على المنبر العالمي، انعكس على الفور في طبيعة الأسئلة التي كانت معدة مسبقاً من قبل الطواقم الإعلامية الأميركية لإحراجه.
ومضى أبعد من ذلك قبيل التئام لقاء القمة بتخصيصه «الاتحاد الأوروبي» كأكبر خصم دولي للولايات المتحدة؛ بيد أن التوقعات التقليدية كانت سترفع روسيا إلى مرتبة الخصم الأول. كما حمّل الدولتين مسؤولية مشتركة لتردي العلاقات الثنائية بينهما «.. أعتقد أن الولايات المتحدة كانت على قدر من الغباء. أعتقد أننا جميعاً كنا أغبياء».
موجة غضب
الاتهامات الأميركية الغاضبة للرئيس ترامب لاحقته قبل نزوله عن منصة المؤتمر الصحفي المشترك مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، محورها الظاهر تعريته لتقارير المؤسسة الاستخباراتية الأميركية حول ضلوع روسيا في التأثير على الانتخابات الرئاسية، وباطنها ذهابه إلى مديات أبعد مما كان مرسوماً له في البعد الاستراتيجي للتقارب والتصالح مع روسيا. وشكل اللقاء الثنائي بين الرئيسين مادة إضافية للنيل من ترامب واتهامه بأنه أقدم على جملة تنازلات «للثعلب بوتين».
القيادات السياسية النافذة في الحزبين أجمعت على رفضها لتصرفات وتصريحات الرئيس ترامب، وبعضها سارع توجيه اتهامات له بارتكاب «الخيانة العظمى» لتصديقه الرواية الروسية وعدم الاقتداء بتوجيهات المؤسسة الأمنية والاستخباراتية الأميركية، التي مهدت الأرضية لديمومة الاشتباك وشيطنة روسيا، وحصدت عكس ما زرعت.
مدير أجهزة الأمن القومي، دان كوتس، سارع لتوضيح مهام المؤسسة المتشعبة التي يرأسها بالقول «إن مهمة الأجهزة الاستخباراتية الأساس هي توفير أفضل المعلومات ومختلف نواحي التقييم المستندة إلى حقائق صارمة ووضعها تحت تصرف الرئيس وصناع القرار. تقييمنا للتدخل الروسي في انتخابات عام 2016 كانت جلية وصارمة».
جملة من ضباط ومسؤولي الاستخبارات السابقين أيقنوا أنه ينبغي معاقبة ترامب الذي بتصرفاته «.. أثار تساؤلات حول حقيقة التزامه بتنفيذ مهام المنصب الرئاسي.. هناك إحساس عام بأن الرئيس الحالي غير قادر على وضع مصالح البلاد كأولوية تسبق مصالحه الشخصية».
المدير السابق للـ«سي آي أي» في عهد باراك أوباما، جون برينان، علق قائلاً «أداء دونالد ترامب يرتقي بل يفوق معايير ارتكاب الجرائم الكبرى.. لم يكن أقل من عمل خياني؛ لقد أصبح تحت قبضة (الرئيس) بوتين». وخاطب برينان أعضاء الحزب الجمهوري البارزين متسائلاً «عند أي مفصل يمكننا إلقاء القبض على شخص كهذا بتهمة إثارة الفتنة؟».
نائب مدير قسم العمليات سابقاً في وكالة الاستخبارات المركزية، روبرت رايكر، وصف أداء ترامب بـ «المخزي .. الرئيس هرول مسرعاً بدل تحمل مسؤولياته كقائد عام للقوات المسلحة وكمواطن أميركي مخلص».
لعل من أبرز الخلافات الداخلية التي تجسدت داخل المؤسسة الحاكمة كان تصريح نائب رئيس مجلس الشيوخ عن الحزب الديموقراطي، تشاك تشومر، مطالباً أعضاء المجلس بتطبيق العقوبات المفروضة على روسيا «والإقلاع عن تأييد الرئيس ترامب للتغاضي عن إقدام حلفاء الولايات المتحدة شراء أسلحة روسية.» وحذر شومر زملاءه من المماطلة في اتخاذ أجراءات صارمة التي ستؤدي «بتشقق التحالفات القائمة، وانهيار المؤسسات التي أوجدناها في أعقاب الحرب العالمية الثانية».
على الطرف المقابل، تماثلت القاعدة المؤيدة لترامب معه وعبرت عن مواقفها بالقول إن لقاء القمة أسهم في اتخاذ خطوات جدية لتحقيق السلام.
توجهات أميركية متنافرة
مسار السياسة الأميركية نحو روسيا، وما شهده العالم من انقسام في الرؤى المؤسساتية الأميركية يشير بوضوح إلى تعددية مفاصل القرار في هذا الشأن. يومية نيويورك تايمز عبرت عن ذلك بالقول «ترامب يفتح ذراعيه لروسيا؛ وإدارته تشدد قبضتها،» في إشارة ألى عدد من ألمع الكفاءات العسكرية والسياسية المتشددة حول الرئيس: مستشار الأمن القومي السابق، هيربرت مكماستر؛ وزير الدفاع جيمس ماتيس؛ وزير الخارجية مايك بومبيو؛ مستشار الأمن القومي جون بولتون؛ ومدير الأجهزة الأمنية الوطنية دان كوتس.
يستغل الحزبان أية مناسبة للتهجم على الآخر، وكلاهما محق في تعبيراته وانتقاداته. الجمهوريون دأبوا على اتهام الرئيس السابق باراك أوباما بليونة مواقفه نحو روسيا؛ والاستدلال إلى لقائه الأخير إبان ولايته الرئاسية الأولى مع الرئيس الروسي آنذاك ديمتري ميدفيديف متوجهاً له بالتوسل للرئيس المقبل فلاديمير بوتين بعدم التشدد لأنه ينوي نسج علاقات أفضل مع موسكو فور انتهاء الانتخابات الرئاسية.
لا ينبغي إهمال دور العامل الداخلي لاسيما في بعده الانتخابي في تحديد ملامح التوجهات المتشددة نحو روسيا. ما نحن بصدده تزامن توجيه المدعي الخاص روبرت موللر لائحة اتهام بحق 12 شخصية روسية، سياسية وعسكرية، عشية لقاء ترامب في هلسنكي، طمعاً في تأزيم الأجواء قبل لقاء القمة وعدم إتاحة الفرصة للرئيس ترامب بالخروج عن الخطوط المرسومة له. في البعد القانوني الصرف، لا تستوفي لائحة الاتهام الشروط القضائية لتوجيه تهم جماعية بهذا الحجم، مما يعزز أهدافها السياسية لإحراج الرئيس ترامب، على أقل تقدير.
يشار أيضاً إلى عدم الجدية الأميركية في متابعة الأمر قضائياً استناداً لتصريح نائب وزير العدل الأميركي، رود روزنستاين مؤكداً أن الصلاحية في هذه المسألة تتبع قسم الأمن القومي في الوزارة، أي من المستبعد المضي بتقديم المتهمين للقضاء؛ ومن ثم دخولها أدراج بيروقراطية الوزارة. كما أن المعاهدات السارية بين البلدين لا تسري عليها «تسليم» روسيا مواطنيها لسلطة دولة أخرى.
من نافل القول أيضاً أن تصريحات الرئيس ترامب بشأن منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون لها أرضية قانونية، إذ أن مكتب التحقيقات الفدرالي لم يتسلم جهاز الخادم الخاص بشبكة أجهزة اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي –جذر الاتهامات المتبادلة بتورط روسيا.
مع تجدد طرح تلك المسألة، من المتوقع أن تنشب خلافات داخلية حول حقيقة الاتهامات في ظل غياب وقائع ومبررات تقطع الشك باليقين حولها، واصطفاف القاعدة الداعمة لترامب وراءه بصورة اقوى متسلحاً هذه المرة بتحديه للمؤسسة التقليدية من على منبر دولي. ومن شأن الاتهامات المتصاعدة من خصومه بتقديمه للقضاء بتهمة «الخيانة العظمى» أن تفاقم الانقسامات الراهنة وتضاعف من تلاحم قاعدته من المؤيدين.
في هذا الشأن تصدى القطب البارز في الحزب الجمهوري باتريك بيوكانين لاتهامات ترامب متحدياً أصحابها المضي للنهاية في هذا السباق. يذكر أن بيوكانين عمل لدى الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون وكان أحد المرشحين للرئاسة عن الحزب الجمهوري.
انقسام عمودي
الهوس الأميركي باستطلاعات الرأي جاءت مخيبة لآمال المؤسسة الحاكمة هذه المرة، إذ تشير إلى انقسام عمودي مناصفة بين مؤيدي ترامب وأولئك المطالبين بتقديمه للمحاكمة. وشهدت الاسابيع القليلة الماضية عدة صدامات عنفية بين الفريقين في بعض المدن الأميركية؛ الأمر الذي ينبيء بخطورة المضي في مواجهة وتحييد الرئيس ترامب، لاسيما عند الأخذ بعين الاعتبار تعبئة قاعدة مناصريه وللتحشيد في الانتخابات المقبلة بعد ثلاثة أشهر.
الفترة الزمنية المقبلة في المدى المنظور حبلى بالتطورات، خاصة وأن الرئيس ترامب ليس على استعداد للتراجع وفضحه لتسخير مؤسسات الدولة في تعقبه تمهيداً لكشف الحساب في زمن ليس بعيداً.
من جملة ما أسفر عنه لقاء القمة تراجع أجواء الحرب الباردة، في المدى المنظور، استناداً إلى تصريحات الرئيس ترامب قبيل اللقاء بتحميل النخب السياسية من الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، مسؤولية تردي العلاقات الثنائية بصورة حصرية. بفعلته هذه أفشل توجهات المحافظين الجدد من الفريقين، وكذلك فريق «الليبراليين» المؤيد للتدخلات العسكرية: جناحي هيلاري كلينتون والثنائي جون ماكين وليندسي غراهام؛ فضلاً عن النخب الثقافية المنتشرة بكثافة في مراكز الأبحاث.
المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية
Leave a Reply