ثلاث سنوات مضت على ما يُعرف الآن باسم الثورات الشعبية العربية، وهي التي بدأت في تونس ثم انتقلت إلى مصر حاملةً المواصفات نفسها ومحققةً النتائج ذاتها. لكن ما حدث بعد ذلك في اليمن والبحرين وليبيا وسوريا، وأحياناً في الأردن والمغرب، لم يكن استكمالاً للمواصفات والنتائج المصرية والتونسية.
فالثورتان التونسية والمصرية اتصفتا بالسلمية رغم قمع السلطات الأمنية في البلدين، وتميَّز الحراك الشعبي فيهما بالاستقلالية عن القوى السياسية التقليدية وعن الارتباط بأي جهة إقليمية أو دولية. أيضاً، اشتركت الثورتان في تونس ومصر بحيادية المؤسسة العسكرية أولاً ثمّ بدعمها للحراك الشعبي وضغطها على الحاكم للاستقالة. وهذه المواصفات غابت عن باقي مواقع الحراك الشعبي العربي الذي حدث منذ ثلاث سنوات.
لكن المشترك بين كل أنواع الانتفاضات الشعبية العربية التي حصلت حتّى الآن هو عدم توفّر العناصر الكفيلة بنجاح أي ثورة. فلم يكن هناك في أيٍّ منها الوضوح الكامل في القيادات ولا في المشروع الفكري والسياسي البديل للنظام الحاكم، لذلك وجدنا سهولةً كبيرة في الانقضاض على هذه الثورات من قوى سياسية تقليدية أحياناً أو من جهات إقليمية ودولية، أحياناً أخرى. ولذلك حصل ويحصل هذا التعثّر في مسيرة الحراك الشعبي وفي تحويره لمصالح وأهداف لا تتّفق مع ما قامت فعلاً من أجله.
ومع نهاية هذا العام، تقف المنطقة العربية أمام مفترق طرق وخيارات حاسمة حول قضايا تتفاعل منذ عقودٍ طويلة في المنطقة، وليس كحصادٍ للسنوات الثلاث الماضية فقط. فما كان قِطَعاً مبعثرة ومتناثرة؛ من أزماتٍ إقليمية متنوعة، ومن حالات ظلم واستبداد وفساد على المستوى الداخلي، ومن مفاهيم ومعتقدات فكرية وثقافية سائدة في المجتمعات، تجمّعت كلّها الآن وامتزجت مع بعضها البعض في ظلّ حراكٍ شعبيٍّ عربيٍّ كبير ومتواصل، وبأساليب لم تشهدها بلدان المنطقة من قبل.
إنّ العام 2014 لن يكون عاماً حاسماً لمصير بعض الأنظمة والحكومات العربية فقط، بل أيضاً لمصير بعض الكيانات وحدودها الجغرافية، وما هي عليه تاريخياً من تركيبة اجتماعية وسكّانية. ولن يقتصر الأمر على جناحٍ واحد من جناحيْ الأمَّة العربية، فبلدان آسيا العربية وإفريقيا العربية كلّها في دائرة حسم المصير المشترك.
صحيحٌ أنّ الانتفاضات الشعبية قد نجحت في تغيير أنظمة الحاكمين في تونس ومصر وليبيا، لكن تفاعلات ما بعد ذلك هي أيضاً مرحلة حبلى بالمخاطر على مستقبل هذه الأوطان ووحدة شعوبها. وسيكون العام القادم هو عام حسم اتجاه نوع التغيير في كلٍّ منها، ومدى تأثير هذا التغيير السياسي على الكيان الوطني نفسه وعلى مكوّناته الطائفية أو الإثنية أو القبلية. ولا يجب أن ننسى أنّ بارقة الأمل، التي اتجهت شرقاً منذ ثلاث سنوات نحو مصر من تونس، قد سبقها هاجس التقسيم الذي حصل جنوب مصر في السودان.
إنّ ما حدث حتى الآن في بعض البلدان العربية لم يصل إلى التغيير الإيجابي الشامل المنشود لعموم “المجتمع العربي”. فالمشكلة عربياً لم تكن بالأشخاص والحكومات فقط، بل أيضاً بالسياسات، وبنهج التبعية للخارج، وببعض المفاهيم والمعتقدات على المستويين «النخبوي» و«الشعبي»، وبوجود حالاتٍ انقسامية داخل مكوّنات الأوطان العربية وبين الأوطان نفسها. لذلك تتأكّد أهمية الجمع في أهداف التغيير بين شعارات الديمقراطية والوحدة الوطنية والعدالة والتحرّر الوطني والهويّة العربية، حيث في تلازم هذه الأهداف، وفي التمسّك بسلمية التحرّك والأساليب، ضمانات لنجاح التغيير وشموليته ولعدم حرفه أو انحرافه عن مساره السليم.
إنّ ما حدث في المنطقة العربية، من حراكٍ شعبيٍّ كبير، هو أشبه بنهرٍ جارف شقّ مساره في جبالٍ وعرة، لكن مهما كان صفاء هذا «النهر» ونقاوة مياهه، فإنّ جهاتٍ عديدة وضعت سدوداً أمام تدفّقه لتمنع تقدمّه، ولتُحوّله إلى طوفانٍ على من فيه وحوله. أيضاً، توجد إلى جانب هذا «النهر الجارف» قوًى خارجية أرادت حرف مساره، مع دعم تدفّقه طبعاً، لكن من أجل صبّ مياهه في بحيرات مصالح هذه القوى ومزارعها الخصبة بمشاريع تفتيت هذه المنطقة والهيمنة على ثرواتها.
إنّ العام القادم هو أيضاً عامٌ حاسم لأزماتٍ إقليمية عديدة، منها ملف علاقات الغرب مع إيران، وفيها أيضاً السعي الأميركي لتحقيق تقدّمٍ في مسار المفاوضات الإسرائيلية–الفلسطينية، إضافةً إلى استحقاقاتٍ تتعلّق بانسحاب قوات «الناتو» من أفغانستان. ويبدو أنّ هناك الآن سعياً محموماً لدى دول «حلف الناتو» للتعامل مع هذه الملفات بـ«الجملة» بعد فشل التعامل معها بـ«المفرّق». بل هناك محاولاتٌ لتوظيف ما يحدث من تركيز في الاهتمامات الشعبية العربية على قضايا داخلية أصبحت لدى البعض هي المعيار، بدلاً من معايير سابقة كانت تتمحور مثلاً حول الصراع مع إسرائيل ومن يدعمها دولياً!!.
إنّ رؤية احتمالات الأحداث وتطوراتها في العام القادم الجديد تتطلّب التعامل مع أوضاع الأمَّة العربية ككل، وعلى ما يحدث فيها وحولها من متغيّرات سياسية، قد تُدخِل بعض شعوبها في التاريخ لكن قد تُخرج أوطانها من الجغرافيا!!.
إذ هل هي صدفةٌ أنّ العام 2011، عام بدء الثورات الشعبية العربية، قد بدأ بإعلان تقسيم السودان، وتحوّل جنوبه إلى دولة مستقلة، وَضَعت في أولويّاتها بناء أفضل العلاقات الخاصّة مع إسرائيل؟!
ثم أهي صدفةٌ أيضاً أن تكون القوات الأطلسية قد حطّت خلال العقد الماضي رحالها وهيمنتها في معظم أرجاء المنطقة، وأن يكون العراق قد تغّير نظامه الظالم السابق بفعل الاحتلال الأميركي-البريطاني، وأن تنشأ دولة جنوب السودان بدعم أميركي-أوروبي-إسرائيلي للجيش الجنوبي السوداني على مدار سنوات، ثمّ أن تتخلّص ليبيا من نظامها الاستبدادي بدعم أطلسي، وكلّ هذه المناطق نفطية هامّة؟!
وهل كانت صدفةً أيضاً أن تتزامن في ظلّ إدارة بوش الدعوة الغربية للديمقراطية في المنطقة مع احتلال العراق أولاً ثمّ ما تبعه من حربين لاحقاً على لبنان وغزّة؟!. ألم يُخصّص الرئيس الأميركي السابق جورج بوش قمّة مجموعة الدول الثماني، التي انعقدت في ولاية جورجيا الأميركية صيف العام 2004، من أجل موضوع الديمقراطية في المنطقة بعد عامٍ من احتلال العراق! ألم يقل الرئيس بوش في كلمته بقمّة الناتو في تركيا، في العام نفسه، إنّ تركيا التي هي عضو في حلف الناتو ولها علاقات مع إسرائيل، تصلح لأن تكون نموذجاً «للدول الديمقراطية» المنشودة في العالم الإسلامي؟!.
تساؤلاتٌ عديدة تدور الآن في المنطقة العربية، التي تختلط فيها الإيجابيات مع السلبيات دون فرزٍ دقيق بين ما هو مطلوب وما هو مرفوض. فحتماً هي مسألة إيجابية ومطلوبة أن يحدث التغيير في أنظمة الحكم التي قامت على الاستبداد والفساد، وأن ينتفض النّاس من أجل حرّيتهم ومن أجل الديمقراطية والعدالة. لكن معيار هذا التغيير، أولاً وأخيراً، هو وحدة الوطن والشعب واستقلالية الإرادة الشعبية عن التدخّلات الأجنبية. فما قيمة أيِّ حركةٍ ديمقراطية إذا كانت ستؤدّي إلى ما هو أسوأ من الواقع القائم، أي إلى تقسيم الأوطان والشعوب ومشاريع الحروب الأهلية!. ثمّ ما هي ضمانات العلاقة مع الخارج الأجنبي، وما هي شروط هذا الخارج حينما يدعم هذه الانتفاضة الشعبية أو تلك؟!
المشكلة هنا ليست في مبدأ ضرورة التغيير ولا في مبدأ حقّ الشعوب بالانتفاضة على حكّامها الظالمين، بل في الوسائل التي تُعتَمد وفي الغايات التي تُطرَح وفي النتائج التي تتحقَّق أخيراً. وهي كلّها عناصر ترتبط بمقوّمات نجاح أيّة حركة تغييرٍ ثوري، حيث لا فصل ولا انفصال بين ضرورة وضوح وسلامة القيادات والأهداف والأساليب. كذلك، لا يمكن تجاهل مدى علاقة التغيير الديمقراطي المنشود بمسائل الصراعات الأخرى الدائرة في المنطقة، وفي مقدّمتها الصراع العربي-الصهيوني والتنافس الدولي والإقليمي على المنطقة وثرواتها.
إنّ أعين العالم كلّه مشدودةٌ الآن إلى ما يحدث في المنطقة العربية من تحوّلات، فهي منطقة الثروات والموقع الإستراتيجي ومقرّ المقدّسات الدينية. لكن بعض هذا «العالم» لا يكتفي بالنّظر من بعيد، بل يمدّ يديه ويحاول وضع قدميه أيضاً في أرض هذه التحوّلات ومع صانعيها. لذلك، فإنّ الأمَّة العربية بحاجةٍ الآن إلى وعي كل طلائعها الفكرية والسياسية والدينية بما يحدث في أوطانهم وأمّتهم، كما الأمّة بحاجةٍ إلى حكّامٍ ومعارضين يدركون ما الذي يفعلونه ببلدانهم، ولا يكتفون بالمراهنة؛ على قوّة الأمن، أو قوّة الشارع، أو قوّة الدعم الخارجي!.
Leave a Reply