أسلحة بيولوجية أم أبحاث علمية بريئة؟
آناربر، ديترويت
خلال أقل من أسبوعين، ألقت السلطات الفدرالية في مطار ديترويت الدولي، القبض على باحثتين صينيتين في «جامعة ميشيغن» بتهمة تهريب مواد بيولوجية خطيرة إلى داخل الولايات المتحدة، وسط مخاوف أميركية متزايدة من مساعٍ صينية لزعزعة الأمن البيولوجي والزراعي في البلاد.
فطر مدمّر للمحاصيل
الحادثة الأولى تعود لأواخر شهر أيار (مايو) الماضي، حيث عثر عناصر الجمارك وحماية الحدود (سي بي پي)، بحوزة يونتشينغ جيان، على فطر مُمْرِض مصنّف ضمن عناصر «الإرهاب الزراعي»، بذريعة استخدامه في أبحاث داخل «جامعة ميشيغن»، حيث تعمل كباحثة، رغم عدم امتلاك الجامعة للتصاريح الفدرالية اللازمة للتعامل مع هذه المادة الخطيرة.
وأوضح مدير مكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي)، كاش باتيل، أن هذا الفطر يشكل سلاحاً إرهابياً زراعياً محتملاً يمكن استخدامه لاستهداف المحاصيل الغذائية الحيوية، مثل القمح والشعير والذرة والأرز، كما قد يؤدي إلى مشكلات صحية خطيرة لدى البشر والماشية على السواء، وهو مسؤول عن خسائر اقتصادية تُقدر بمليارات الدولارات سنوياً على مستوى العالم.
وبحسب مدير «أف بي آي» فإن الأدلة تشير إلى أن جيان (33 عاماً) عبّرت عن ولائها للحزب الشيوعي الصيني، وتلقت دعماً وتمويلاً حكومياً من بكين لإجراء أبحاث مشابهة على هذا الفطر داخل الصين. وأوضح أن «ما كشفته التحقيقات يمثل نموذجاً واضحاً للتغلغل الصيني في المؤسسات البحثية الأميركية، واستهداف منظومة الغذاء الأميركية».
كما وُجهت تهم مماثلة إلى زونيونغ ليو –صاحب جيان– وهو باحث يعمل في جامعة صينية ويجري أبحاثاً على الفطر ذاته. ولكنه مقيم حالياً في الصين، ومن المستبعد تسليمه إلى واشنطن، لعدم وجود اتفاقية تبادل للمجرمين بين الصين والولايات المتحدة.
وكان ليو (34 عاماً) قد حاول دخول الولايات المتحدة عبر مطار ديترويت في تموز (يوليو) 2024، إلا أن سلطات الجمارك رفضت دخوله بعد أن قدّم روايات متضاربة بشأن مادة نباتية حمراء عُثر عليها في حقيبته. وبعد إنكاره في البداية معرفته بها، أقر لاحقاً بنيّته استخدامها في أبحاث ضمن مختبر «جامعة ميشيغن»، الذي تعمل فيه جيان والذي كان قد عمل فيه سابقاً.
وأشارت السلطات الفدرالية إلى أن تفتيش هاتف ليو كشف عن مقالة علمية بعنوان: «حرب النبات والفطريات في ظل تغير المناخ». كما أظهرت رسائل متبادلة بينه وبين جيان أن الأخيرة كانت تحتفظ بعينة من الفطر داخل مختبر الجامعة قبل توقيف ليو.
وتتضمن قضية مكافحة التجسس التي رفعها «أف بي آي» ضد جيان وليو، مزاعم بتلقيهما أموالاً من مؤسسة صينية ممولة بشكل كبير من حكومة بكين لإجراء أبحاث ما بعد الدكتوراه. ويشمل ذلك بحثاً عن فطر يُعرف باسم «فيوزاريوم غراميناروم»، وهو مُمْرِض بيولوجي يُمكن أن يُسبِّب أمراضاً مُدمِّرة للمحاصيل الزراعية.
وقد وجه الادعاء العام الفدرالي للثنائي، تهم التآمر وتهريب بضائع محظورة إلى داخل الولايات المتحدة، وتقديم بيانات كاذبة، إضافة إلى الاحتيال في التأشيرات.
وعلق باتيل قائلاً: «هذه القضية تذكير صارخ بأن الحزب الشيوعي الصيني لا يتوقف عن إرسال باحثين وعملاء للتسلل إلى المؤسسات الأميركية، واستهداف سلاسل الإمداد الغذائي، مما يعرض حياة المواطنين واقتصادنا الوطني لأخطار جسيمة».
طفيليات سامة
أما في القضية الثانية، فتم اعتقال باحثة صينية أخرى تدعى تشنغشوان هان، فور وصولها إلى مطار ديترويت الدولي يوم الأحد الماضي، بتهمة إرسال طرود تحتوي على طفيليات سامة تستخدم لنمو الديدان الخيطية، المعروفة أيضاً باسم الديدان الأسطوانية، فضلاً عن اتهامها بالإدلاء بمعلومات كاذبة حول محتواها.
وبحسب «أف بي آي»، أرسلت هان أربعة طرود تحتوي على مواد بيولوجية خطيرة سُلّمت لشخصين يعملان في مختبرات «جامعة ميشيغن» بين أيلول (سبتمبر) 2024 وآذار (مارس) 2025.
وفور وصول هان على متن رحلة جوية قادمة من شنغهاي بتأشيرة J1، فتّشها ضباط «سي بي پي»، وأحالوها للتحقيق مع «أف بي آي»، لاستجوابها بشأن الطرود الأربعة، حيث نفت في بادئ الأمر تورطها بتهريب مواد بيولوجية محظورة. ولكن بعد الضغط عليها، اعترفت بإرسال طرود تحتوي على مواد بيولوجية والإدلاء بتصريحات كاذبة، غير أنها نفت علم مسؤوليها في «جامعة ميشيغن» و«جامعة هواتشونغ» في مدينة ووهان الصينية، بمحتويات الطرود، وفقاً لوثائق المحكمة الفدرالية في ديترويت.
وأثناء تفتيشها، تبيّن لمسؤولي «سي بي پي» أن جهاز هان الإلكتروني قد مُسح قبل ثلاثة أيام من دخولها الولايات المتحدة.
وقال المدعي العام الفدرالي في ديترويت، جيروم غورغن، في بيان: «إن تهريب المواد البيولوجية المزعوم من قِبل هذه الأجنبية من جامعة للعلوم والتكنولوجيا في ووهان، الصين –لاستخدامها في مختبرات جامعة ميشيغن– هو جزء من نمط مُقلق يُهدد أمننا». وأضاف: «لا ينبغي لدافعي الضرائب الأميركيين أن يموّلوا عملية تهريب تقودها جمهورية الصين الشعبية، عبر إحدى مؤسساتنا العامة الحيوية».
وتدرس هان للحصول على درجة الدكتوراه من كلية علوم الحياة والتكنولوجيا في «جامعة هواتشونغ للعلوم والتكنولوجيا» في ووهان. وقد دُعيت لتكون باحثة زائرة في «جامعة ميشيغن»، حيث يركّز بحثها على الآليات الحسية للحيوانات في اكتشاف إشارات اللمس والضوء والمواد الكيميائية ودرجة الحرارة، بالإضافة إلى التفاعلات بين المعالجة الحسية والاستجابات السلوكية.
وصرّح جون نوفاك، القائم بأعمال مدير العمليات الميدانية في «سي بي پي»، في بيان: «إن إرشادات استيراد المواد البيولوجية إلى الولايات المتحدة لأغراض البحث، صارمة، لكنها واضحة»، واصفاً عمليات التهريب بأنها «تقوض العمل المشروع للباحثين الزائرين الآخرين».
مصير الطلاب الصينيين
تأتي الاتهامات الموجهة إلى الباحثين الصينيين الثلاثة، في خضم توتر العلاقات بين واشنطن وبكين، حيث تشنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب حملة تضييق على الطلاب الصينيين الدارسين في الجامعات، وتعتزم إلغاء تأشيراتهم «بكثافة»، بدعوى الخوف من تهديد الأمن القومي للولايات المتحدة، والتجسس لصالح وطنهم، أو «نقل العلوم»، في المجالات الحساسة، لا سيما التكنولوجيا والفيزياء وهندسة الحاسوب وغيرها، ووصل الأمر ببعض المؤيدين لهذا النهج ضمن إدارة ترامب وحلفائها، إلى حدّ وصف هؤلاء الطلاب، بأنهم «حصان طروادة».
وقد تعهّد وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، الشهر الماضي، بأن تلغي واشنطن «بكثافة» تأشيرات طلاب الصين التي لطالما كانت المصدر الأول للطلاب الأجانب إلى الولايات المتحدة، قبل أن تتجاوزها الهند مؤخراً، علماً بأن الطلاب الدوليين يشكلون أقل بقليل من 6 بالمئة من إجمالي عدد المنتسبين إلى الجامعات الأميركية.
وفي «جامعة ميشيغن–آناربر»، يشكّل الصينيون أكبر مجموعة من الطلاب والباحثين الأجانب، وفقاً لمركز الحياة الطلابية الدولية في الجامعة، حيث بلغ عددهم في العام الدراسي الماضي، 4,046 من أصل 13,718 طالباً وباحثاً وموظفاً ومبتعثاً من 146 دولة. ويشمل هذا الرقم 554 موظفاً وباحثاً من الصين.
وعلى المستوى الوطني، تضم الجامعات الأميركية –عموماً– حوالي 277 ألف طالب وباحث صيني.
وفي ظل تصاعد الضغوط، أصبحت هذه الشريحة من الطلاب تحت المجهر، وباتت تعيش كابوس الخوف من الترحيل، والقلق على مستقبلهم ومصيرهم الدراسي.
وفي بكين، اعتبر خبراء صينيون، أن القرار الأميركي بإلغاء تأشيرات الطلاب الصينيين، يأتي ضمن «نهج حرب الرسوم الجمركية واتهامات (مخدر) الفنتانيل»، والتي يصفونها بـ«الباطلة».
وقد وصفت حكومة بكين الخطوة بأنها «هجوم صارخ على الحرية الأكاديمية والتبادلات بين الشعبين»، لكن دون الكشف عن آلية، أو خطة، ترسم ملامح بدائل لعشرات الآلاف من طلابها، المهددين بخسارة الغطاء القانوني لبقائهم في الولايات والمتحدة، وإكمال دراستهم.
وقالت السفارة الصينية بواشنطن في بيان، إن «مثل هذه الخطوة ستقوض بشكل خطير الحقوق والمصالح المشروعة للطلاب الصينيين في الولايات المتحدة. كما ستضر بصورة وسمعة الولايات المتحدة نفسها».
في المقابل، حاول ترامب طمأنة الطلاب الصينيين في البلاد مشيراً إلى أنهم «سيكونون بخير». وأضاف «نحن نرغب في استقبال الطلاب الأجانب، لكننا نريد التحقق منهم».
طلاب آناربر أيضاً وأيضاً
تورُّط الطلاب الصينيين في «جامعة ميشيغن» مع سلطات إنفاذ القانون الأميركية، لم يقتصر على الباحثين الثلاثة، فقد كشفت السلطات الفدرالية الشهر الماضي، عن فرار طالب صيني متهم بالتصويت بشكل غير قانوني في انتخابات عام 2024، وذلك بعد فرار خمسة طلاب آخرين –العام الماضي– بعد أشهر من ضبطهم داخل قاعدة عسكرية في شمال ميشيغن، خلال مناورات تدريبية للحرس الوطني الأميركي مع أفراد من الجيش التايواني.
وتمكن الطلاب الستة من مغادرة الولايات المتحدة قبل عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وسط اتهامات للإدارة السابقة برئاسة جو بايدن بالتساهل مع الصين.
وفرَّ هاوشيانغ غاو، البالغ من العمر 19 عاماً، من الولايات المتحدة إلى الصين عبر مطار ديترويت الدولي قبل يوم واحد من تولي ترامب الرئاسة، رغم تسليم جواز سفره وموافقته على البقاء في ميشيغن بكفالة قدرها 5,000 دولار بانتظار محاكمته بتهمة التصويت غير القانوني لعدم حيازته على الجنسية الأميركية.
وأفاد المحققون بأن غاو سلّم جواز سفر صينياً واحداً، لكنه استخدم جوازاً آخر صادراً باسمه للصعود على متن رحلة جوية تابعة لخطوط «دلتا»، من مطار ديترويت الدولي إلى مطار شنغهاي في 19 كانون الثاني (يناير) المنصرم. ولم يتضح كيف حصل الطالب على جواز السفر الثاني،
وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2024، اتُّهم خمسة خريجين صينيين من «جامعة ميشيغن» بالتآمر والكذب على المحققين الفدراليين وإتلاف الأدلة أثناء تحقيق فدرالي، بعد ضبطهم داخل معسكر غرايلينغ في شمال ميشيغن عام 2023، وهم يحملون كاميرات بالقرب من العديد من المركبات العسكرية والخيام ومعدات الاتصالات خلال مناورة عسكرية باسم «ضربة الشمال».
إلا أن الطلاب الخمسة سافروا إلى الصين بعد تخرّجهم في مايو 2024، دون أن يتم القبض على أيّ منهم رغم صدور أوامر اعتقال بحقهم.
Leave a Reply