بدأ الرئيس الأميركي أوباما عهده في مطلع العام 2009 مبشّراً برؤية مثالية للسياسة الخارجية الأميركية، فيها التأكيد على حقّ الشعوب بتقرير مصيرها، وفيها دعوة للتعامل بين الدول على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. كما كان في هذه الرؤية نقد مباشر وغير مباشر لما كانت عليه السياسة الأميركية في ظلّ الإدارة السابقة، خاصّةً لجهة الانفرادية في القرارات الدولية الهامّة ولاستخدامها أسلوب الحروب في معالجة الأزمات، وما رافق هذا الأسلوب أحياناً من أساليب تعذيب لمعتقلين وتعدٍّ على حقوق الإنسان.
وقد كان الملفّ الفلسطيني أحد الملفّات الهامّة في رؤية الرئيس أوباما حيث خصّص له فور تولّيه سدّة الرئاسة مبعوثاً خاصّاً هو السيناتور السابق جورج ميتشل، المعروف بنجاحه في معالجة الأزمة الأيرلندية خلال حقبة الرئيس بيل كلينتون.
الآن، وبعد مضيّ ثلاث سنوات على وجود باراك أوباما في البيت الأبيض، وفي عام ترشّحه مجدداً للرئاسة الأميركية، نجد أنّ رؤيته المثالية لأميركا والعالم اصطدمت بواقع أميركي وبظروف خارجية دولية أعاقا معاً تنفيذ الكثير ممّا طمحت له “الرؤية الأوباميّة”.
إنّ الواقع الأميركي الداخلي يقوم على قوى ضغط عديدة (اللوبي) تمثل مصالح جهات فاعلة في المجتمع الأميركي، وقد عمل قسم منها على تعطيل برنامج أوباما الإصلاحي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والصحّي، كما هو حاصل أيضاً في العلاقات الأميركية-الإسرائيلية وفي اضطرار إدارة أوباما للتراجع عن شرط تجميد كل أعمال الاستيطان قبل استئناف المفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية.
ففي ظلّ حضور الضغط الإسرائيلي المؤثر داخل الولايات المتحدة، من خلال العلاقة مع أعضاء الكونغرس والهيمنة على معظم وسائل الإعلام، تصبح السلطة التنفيذية في أميركا أسيرة ضغوط السلطة التشريعية و”السلطة الرابعة” (أي الإعلام). والمعضلة هنا أنّ الفرز لا يكون حصراً بين حزب ديمقراطي حاكم وحزب جمهوري معارض، بل يتوزّع “التأثير الإسرائيلي” (كما هو أيضاً في قوى الضغط الأخرى) على الحزبين معاً، فنرى عدداً لا بأس به من “الديمقراطيين” يشاركون في ممارسة الضغط على الإدارة الحاكمة لصالح هذا “اللوبي” أو ذاك، علماً أنّ تعثّر “الرؤى الأوبامية” ليس سببه حجم تأثير “اللوبي الإسرائيلي” فقط، فهناك طبعاً “مصالح أميركية عليا” ترسمها قوى النفوذ المهيمنة تاريخياً على صناعة القرار وعلى الحياة السياسية الأميركية، وهي قوى فاعلة في المؤسسات المالية والصناعية الأميركية الكبرى.
لكنْ هناك اختلال كبير في ميزان “الضغوطات” على الإدارة الأميركية لجهة حضور “الضغط الإسرائيلي” وغياب “الضغط العربي”، ممّا يسهّل دائماً الخيارات للحاكم الأميركي بأن يتجنّب الضغط على إسرائيل ويختار الضغط على الجانب العربي، والطرف الفلسطيني تحديداً، وهو الطرف المستهدَف أولاً من قِبَل إسرائيل، كما هو “الحلقة الأضعف” في سلسلة التحرّك الأميركي بالمنطقة.
لذلك كانت التوقّعات من الإدارة التي رئسها باراك أوباما كبيرة. لكن هذه التوقّعات بتغييرات أساسيّة في السياسة الخارجية الأميركية عموماً، وفي منطقة الشرق الأوسط خصوصاً، كانت أكبر من القدرة الفعلية للرئيسٍ الأميركي. فما حصل من تغيير حتى الآن هو في الشعارات وفي الخطوط العامة المعلَنة للسياسة الخارجية الأميركية وليس في جوهرها أو حتّى في أساليبها المعهودة. صحيح أنّ إدارة أوباما لم تبدأ الحروب والأزمات المتورّطة فيها الولايات المتحدة حالياً، وصحيح أيضاً أنّ هذه الإدارة لم تبدأ أي حروب أو أزمات دولية جديدة، لكنّها (هذه الإدارة) لم تقم بعد بتحوّلات هامّة في مجرى الحروب والأزمات القائمة، بل نجد الآن انسجاماً كبيراً مع نهج الإدارة السابقة في مسألة التعامل مع الملف الإيراني واحتمالاته التصعيدية الخطيرة.
ثلاثة أعوام مضت على وجود إدارة أوباما في الحكم ولم تحدث متغيّرات جذرية في السياسة الأميركية، فهل مَرَدُّ ذلك مشكلة الحاكم الأميركي، أم الظروف والإمكانات التي يعمل من خلالها؟ السؤال مهمٌّ لأنّه يرتبط بحجم الآمال الكبيرة التي وضعها الأميركيون وشعوب كثيرة على فوز أوباما. فالفارق شاسع بين خيبة الأمل بالشخص كمبدأ وبين تفهّم الظروف المحيطة به مع استمرار الأمل بتغيير نحو الأفضل.
كتبت عن الرئيس أوباما، بعد فوزه بالانتخابات عام 2008، أنّه سيكون “قائد سيّارة جيّد” لكنه سيبقى محكوماً ومنضبطاً بـ”قوانين السير الأميركية” وبالطرق المعبّدة أمامه سلفاً للسير عليها، وفي السرعة المحدّدة له، وبضرورات التزامه بـ”إشارات الضوء” وتنقّلها المتواصل من الأخضر إلى الأصفر فالأحمر!.
يبدو الآن أنّ “الضوء الأحمر” كان الأكثر استعمالاً على طرقات عمل الرئاسة الأميركية! فرغم صدق نوايا الرئيس أوباما واجه برنامجه الداخلي صعوبات عديدة، بينما لا يزال الكثير من توجّهات التغيير في السياسة الخارجية التي كان يدعو إليها مجرّد خطب وكلمات، ولعّل المرسوم الرئاسي الذي أصدره أوباما في مطلع عام 2009 والقاضي بإغلاق معتقل غوانتنامو، والذي لم يُنفّذ حتى الآن، لخير دليل على ذلك، إضافةً طبعاً لعجز إدارة أوباما في الضغط على حكومة نتنياهو لتجميد الإستيطان واضطرار جورج ميتشل للاستقالة من مهمّته بعدما اصطدمت بحائط الموقف الإسرائيلي.
إدارة بوش كانت، بلا أيّ شك، بمثابة كابوس على العالم كلّه وعلى العرب تحديداً، لكن لم يكن من المفروض الاستيقاظ من هذا الكابوس للوقوع في “أحلام اليقظة” والأوهام بأنّ إدارة أوباما ستحمل معها الخلاص والسلام لأزمات المنطقة والعالم.
فما حدث في الولايات المتحدة في انتخابات العام 2008 من انقلاب ثقافي سمح بوصول مواطن أميركي أسود، ابن مهاجر إفريقي يحمل اسم حسين، إلى سدّة البيت الأبيض، لم يكن أيضاً انقلاباً سياسياً في الشؤون الخارجية الأميركية. فالولايات المتحدة، بغضّ النظر عن الشخص الذي يحكمها، ستبقى حريصةً على كيفية فهم مؤسساتها لدورها القيادي في العالم ولكيفية حماية مصالحها الأمنية والسياسية والاقتصادية في الشرق والغرب، وعلى استمرار الدعم لإسرائيل ودورها المميّز في الشرق الأوسط.
لكن هذا “النمط الأميركي الثقافي اللاعنصري المعتدل” الجديد الذي أوصل أوباما لسدّة الرئاسة، واجه ويواجه تحدّيات داخلية كثيرة في المجتمع الأميركي، أبرزها الشعور العنصري الدفين لدى عشرات الملايين من الأميركيين مقابل ما هو عليه أوباما من أصول إثنية إفريقية، ودينية إسلامية (لجهة والده)، ثمّ برنامجه السياسي والاجتماعي المتناقض مع برنامج اليمين المحافظ الأميركي، إضافةً إلى الانقسام السياسي التقليدي في أميركا بين “ديمقراطيين
” و”جمهوريين”، وما في كلِّ معسكر من برامج صحّية واجتماعية واقتصادية مختلفة، وتأثيرات هامّة لشركات كبرى ومصالح ونفوذ “قوى الضغط” الفاعلة بالحياة السياسية الأميركية.
ولم تكن مشكلة أوباما مع خصومه وخصوم حزبه التقليديين فقط، بل هي أيضاً في داخل “المعسكر” الذي ساهم بوصوله إلى سدّة الرئاسة. فأعداد كبيرة من المستقلين وجيل الشباب الأميركي كانت معه من أجل تغيير شامل ولوقف حروب أميركا الخارجية، وهي أمور لم تحدث طبعاً بعد. كذلك بالنسبة للأوضاع الاقتصادية حيث كانت توقّعات الناخبين لأوباما أكبر من الممكن فعله لتحسين الاقتصاد الأميركي.
العوامل ذاتها التي ساعدت على فوز أوباما بانتخابات الرئاسة هي المسؤولة الآن عن تراجع شعبيته. فحجم سيّئات إدارة بوش وشموليتها لأوضاع أميركا الداخلية والخارجية، كانت لصالح انتخاب أوباما، لكن عدم القدرة حتى الآن على إزالة هذه السيئات أضعف وما يزال من قوّة التيّار الشعبي المساند للإدارة الحالية.
أمّا بالنسبة للقضايا العربية فستضطرّ أي إدارة أميركية للتعامل معها بمقدار ما تكون عليه المنطقة العربية من توافق على رؤية مشتركة لأزماتها المشتركة. لذلك، ما لم يحصل تغيير إيجابي في الواقع العربي وفي العلاقات العربية الراهنة، لن يحدث كذلك تغيير إيجابي في السياسة الأميركية.
إنّ المشكلة، أولاً وأخيراً، هي في المراهنات العربية على الخارج و”متغيّراته”، وفي انعدام القرار العربي بوضع رؤيةٍ عربية مشتركة. فالمشكلة ليست بواقع حال السياسة الأميركية في الشرق الأوسط فقط، المشكلة أصلاً هي في استمرار المراهنات على تغيير في الخارج بينما يبقى الجمود سمةً لازمة للمنطقة العربية وسياساتها.
وليس ممكناً طبعاً فصل ملف الأزمة الأميركية مع إيران عن ملفات “الأزمات الأخرى” في المنطقة العربية، وعن حلفاء طهران في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين. فإيران معنيّة بشكل مباشر أو غير مباشر في تداعيات أيّ صراع، حدث أو قد يحدث، فيما فُتِح الآن من أزمات عربية. وهذا يفسّر المواقف الأميركية الحالية من عدّة حكومات ومعارضات وقضايا عربية، تتفاعل في عام ما عُرف باسم “الربيع العربي”. لكن من رحم هذه الأزمات المتشابكة على الأراضي العربية تتوالد مخاوف سياسية وأمنية عديدة، أبرزها كان وما يزال مخاطر الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية، خاصّةً في ظلّ الحراك الشعبي العربي الحاصل ضدّ حكومات الاستبداد والفساد، وما يرافق هذا الحراك من عنف مسلح أحياناً ومن محاولات مستميتة لتدويل أزمات داخلية عربية.
المنطقة العربية كانت، وما تزال، في حالٍ من الصراعات والخلافات بين حكومات دول المنطقة، ولم يؤدِّ بعدُ ما حدث في مصر من تغيير إلى إعادة التضامن العربي، والذي بغياب حدِّه الأدنى تصبح المنطقة فارغةً من أيّ رؤية أو “مشروع” عربي يقابل ما هو يُطرَح (ويُنفَّذ) من رؤى ومشاريع إقليمية ودولية. فتكون المنطقة العربية مُسيَّرةً في سياساتها الخارجية حتى لو أدّت الانتفاضات الشعبية إلى جعلها مُخيَّرةً لحدٍّ ما في أمورها الداخلية. كل ذلك يحدث والمشروع الإسرائيلي ما زال يراهن على صراع عربي-إيراني في المحيط الإقليمي، وعلى صراعات وفتن طائفية ومذهبية وإثنية في الداخل العربي. فهذا وحده ما يصون “أمن إسرائيل” ومصالحها في المنطقة، وما ينهي نهج المقاومة ضدَّ احتلالها، وما يجعل “العدو” هو العربي الآخر (أو الإيراني أو التركي المجاور)، وما يُنسي شعوب المنطقة القضية الفلسطينية، وما يجعل بعض “الثورات” العربية الحاصلة قوّة إسقاطٍ لكياناتٍ وأوطان لا لحكوماتٍ وأنظمة فحسب!.
Leave a Reply