صبحي غندور
هناك مقولةٌ تتكرّر في الدول الغربية، تحاول ربط الظاهرة الإرهابية المعروفة الآن باسم عدة جماعات «إسلامية» بالدين الإسلامي نفسه، أو بأسباب محدّدة فقط بغياب الديمقراطية في المجتمعات العربية والإسلامية، وبالفقر الاجتماعي أيضاً، وبانعدام فرص العمل في هذه المجتمعات.
بينما نجد مقولةً أخرى، مصادرها عربية وإسلامية، تعيد في تفسيرها لظاهرة التطرّف العنفي، إلى مسؤولية الغرب وسياساته كسببٍ يدفع هذه الجماعات الإسلامية لاستخدام أسلوب العنف المسلّح ضدّ المدنيين والأبرياء، ومن أجل تنفيذ أجندتها الفكرية والسياسية.
وفي المقولتين إجحافٌ لكامل الحقيقة، وقصور عن الرؤية الشاملة للواقع.
فالمقولة الأولى «الغربية» تحاول أن تنفي مسؤولية الغرب عن «ظاهرة الإرهاب» وتعيد المشكلة فقط إلى أوضاع داخلية في الدول العربية والإسلامية، بل إنّها لا تشير إلى مسؤوليتها حتّى في هذا الجانب «الداخلي» بالرغم من حقيقة هذا الأمر عملياً منذ مطلع القرن العشرين، وما قامت به الدول الاستعمارية الأوروبية ثمّ أميركا من إعداد ورعاية لهذا الواقع الداخلي العربي والإسلامي، وفي كلّ مجالاته الجغرافية والدستورية والسياسية والاقتصادية، إضافةً إلى الدعم غير المحدود لنشوء الدولة الإسرائيلية وحروبها العدوانية على العرب والفلسطينيين.
ثمّ كيف يفسّر أصحاب هذه المقولة «الغربية» ما حدث في عدّة ولايات أميركية من أعمال إرهابية كانت خلفها جماعات إرهابية أميركية، غير عربية وغير إسلامية، رغم وجود الديمقراطية في أميركا؟! وهل يمكن وسم هذه الممارسات الإرهابية بانتماءات دينية أو «ولايتية» أو عرقية؟!.
وكيف يفسّر الأوروبيون ما كان يحدث في بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان وأسبانيا من عمليات إرهابية يقوم بها أتباع لجماعاتٍ متطرّفة، وبعضها كان يمارس العنف المسلّح بأسماء دينية، أو بطابع «وطني تحرّري» مثل «الجيش الجمهوري الأيرلندي» في بريطانيا وجماعات «الباسك» في أسبانيا؟!
أمّا المقولة الأخرى «الشرقية»، فهي أيضاً تحاول التملّص من مسؤولية الذات العربية والإسلامية عن بروز ظاهرة التطرّف و«الإرهاب»، وترفض الاعتراف بالأزمات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة في هذه المجتمعات.
فما يحدث الآن في العراق وسوريا وليبيا واليمن، وما حدث في لبنان ومصر والجزائر والسودان، وفي عدّة بلدان قبل ذلك، من أعمال إجرام وعنف دموي باسم الإسلام، ضدّ مواطنيين مسيحيين ومسلمين، هو نوعٌ من الجرائم التي لا يمكن تبريرها ولا يجوز السكوت عنها، حيث السكوت عن هذه الأعمال هو تشجيعٌ لها ولو عن ضد قصد.
فالقتل العشوائي لناسٍ أبرياء هو أمرٌ مخالف لكلِّ الشرائع السماوية والإنسانية، وهو يتكرّر رغم ذلك في أكثر من زمان ومكان، ولا نراه يتراجع أو ينحسر، وفي ذلك دلالة على انتشار الفكر المشجّع لمثل هذه الأساليب الإجرامية.
وتزداد المأساة استفحالاً حينما يعطي بعض المحلّلين السياسيين الأعذار لهذه الجماعات ولأعمالها، أو تبريراً لها من خلال استعراض الأزمات القائمة في المجتمعات، وكأنّ الحرام يصبح حلالاً لمجرّد وجود مشاكل اجتماعية أو سياسية في هذا المكان أو ذاك. فقتل النفس البريئة هو جريمة بكلِّ المعايير، مهما ارتدى الفاعل المجرم من عباءات دينية أو طائفية أو وطنية.
إنّ اتساع دائرة العنف الدموي باسم الإسلام أصبح ظاهرةً خطرة على الإسلام نفسه، وعلى المسلمين وكافّة المجتمعات التي يعيشون فيها. وهذا أمر يضع علماء الدين أولاً أمام مسؤولية لا يمكن الهروب منها، فهم إمّا فاشلون عاجزون عن ترشيد السبيل الديني في هذه المجتمعات، أو أنّهم مشجّعون لمثل هذه الأساليب. وفي الحالتين، فالمصيبة كبرى. كذلك هي مشكلة غياب المرجعيات الفكرية الدينية التي يجمع الناس عليها، وتحوّل الأسماء الدينية إلى تجارة رابحة يمارسها البعض زوراً وبهتاناً.
لقد أصبح العنف باسم الدين أو المذهب ظاهرة بلا ضوابط، وهذا نراه في مجتمعات تسعى للتغيير، لكن أمور هذه المجتمعات تسير من سيء إلى أسوأ. فالتغيير القائم على العنف المسلّح وقتل الناس العشوائي يؤدي حتماً إلى تفكّك المجتمعات والأوطان، وإلى صراعات أهلية دموية نرى نتائجها الآن في مشرق الأمّة العربية وفي مغربها.
إنّ الشعوب العربية والإسلامية تعاني منذ عقودٍ طويلة من مشكلة خلط أميركا وإسرائيل، ودول الغرب عموماً، ما بين حقِّ المقاومة المشروع ضدّ الاحتلال وبين أسلوب الإرهاب المنبوذ ضدّ المدنيين أيّاً كانوا. وهاهي ممارسات وأفكار بعض الجماعات المسلّحة العاملة بأسماء عربية وإسلامية، تخدم هذا الخلط والغايات المرجوّة منه.
لذلك، فإنّ الموقف المبدئي الرافض لهذه الأساليب أينما كان هو المطلوب الآن، لا الاكتفاء بالإدانة النسبية فقط تبعاً لاختلاف المكان والمصالح.
إنّ هذه المدرسة العنفية في بعض المجتمعات الإسلامية تعيش على حصاد خطايا الآخرين، وتحاول تبرير أساليبها بما ارتكبه الآخرون من حكّام في الداخل أو متدخّلون من الخارج، إلا أنّها في ذلك إنّما هي تخدم أيضاً الطرف الذي تدّعي هذه الجماعات بأنّها تحاربه وتستهدفه.
إنّ التطرّف يغذّي بعضه البعض الآخر، رغم التناقض في الشعارات وفي الأهداف. فهذه هي محصّلة السنوات الماضية التي مرّت على أحداث سبتمبر 2001 في أميركا، ثمّ على حرب إدارة بوش على الإرهاب.
بل إنّ نشأة هذه الجماعات العنفية العاملة بأسماء إسلامية هي أصلاً نشأة مشبوهة ولدت في رحم المخابرات الأميركية خلال حقبة الصراع الأميركي مع القطب الشيوعي، كما هي تخدم الآن بالكامل المشروع الإسرائيلي بالمنطقة.
فللأسف، هناك عربٌ ومسلمون يقومون حالياً بخوض «معارك إسرائيليّة»، وهم يحقّقون كل ما يندرج في خانة «المشاريع الإسرائيليّة» للمنطقة من تقسيم طائفي ومذهبي وعرقي يهدم وحدة الكيانات الوطنيّة، ويقيم حواجز دم بين أبناء الأمّة الواحدة لصالح فئاتٍ تستفيد من فتات الأوطان، فتقيم دويلاتها الفئويّة الخاصّة ولو على بحرٍ من الدّماء. أليس هو مشروع إسرائيلي تفتيت المنطقة العربيّة إلى دويلات متناحرة؟ أما هي مصلحة إسرائيليّة كاملة نتاج ما جرى وما زال يجري الآن في عدّة دول عربية من هدمٍ لوحدتها الوطنية ومن تهميشٍ للقضية الفلسطينية؟!.
عقب سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية، تبيَّن أنَّ رئيس الاستخبارات فيها واسمه (ماركوس وولف) كان عميلاً مزدوجاً مع إسرائيل، وهو الذي كان يشرف على تدريب وتوجيه كوادر في منظماتٍ عربية شيوعية قام بعضها بعمليات خطف طائراتٍ مدنية وتفجيراتٍ حدثت في مدنٍ أوروبية!.
فماذا يمنع أن تكون المخابرات الإسرائيلية قد جنَّدت أيضاً مجموعة من العملاء المزدوجين (مثل حالة ماركوس وولف) من الشيشان وصولاً إلى نيجيريا لتأسيس أو لتدريب وتوجيه حركات أو منظمات تحمل أسماء «إسلامية»، تماشياً مع مرحلة ما بعد الحرب الباردة وبدء الصراع بين الغرب و«العدو الإسلامي» الجديد المصطنع؟!.
فإذا كانت إسرائيل وأجهزتها الأمنية تتسلّل إلى أهمّ المواقع السياسية والأمنية في دول كبرى ومنها الحليف الأكبر لها أميركا، فما الذي يمنعها من أن لا تفعل ذلك مع أعدائها المحيطين بها؟
نعم، هناك بلا شك مسؤولية «غربية» وأميركية وإسرائيلية عن بروز ظاهرة الإرهاب بأسماء «إسلامية»، لكنّ ذلك عنصر واحد من جملة عناصر أسهمت في تكوين وانتشار هذه الظاهرة.
ولعلّ العنصر الأهمّ والأساس في وجود ونمو ظاهرة العنف باسم الإسلام هو العامل الفكري/العقيدي حيث تتوارث أجيال في المنطقة العربية والعالم الإسلامي مجموعةً من المفاهيم السلبية الخاطئة التي تتعارض مع أصول الدعوة الإسلامية، ومع خلاصة التجربة الإسلامية في مراحلها الأولى.
هي كذلك أزمة فكرية في مسبّبات ظاهرة التطرّف المسلّح باسم الدين، حينما تضعف الانتماءات الوطنية وتسود بدلاً منها هويّات فئوية بمضامين طائفية ومذهبية ضيقة. ولعلّ بروز ظاهرة «التيّار الإسلامي» بما فيه من غثٍّ وسمين، وصالحٍ وطالح، في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، ما كان ليحدث بهذا الشكل لو لم تكن هناك في المنطقة العربية حالة ضعفٍ للهويّة العروبية وغياب كبير لدور المرجعية العربية الرائدة..
Leave a Reply