صبحي غندور
فـي الإسلام مفاهيم وضوابط واضحة لا تُقر بأيِّ حالٍ من الأحوال قتْل الأبرياء – وهو مضمون المصطلح المتداول الآن (الإرهاب)- مهما كانت الظروف والأعذار حتى ولو استخدم الطرف المعادي نفسه هذا الأسلوب.
وفـي قول ابن آدم (هابيل) لأخيه(قابيل) حكمة بالغة لمن يعيها:
«لئِنْ بسَطْتَ إليَّ يدَكَ لتقتُلني ما أنا بباسطِ يدِيَ إليكَ لأقتُلَكَ إنّي أخافُ اللهَ ربَّ العالمين. إنّي أُريدُ أن تبُوْأَ بإثْمي وإثْمِكَ فَتكونَ من أصحابِ النّارِ وذلكَ جزاءُ الظالمين». (القرآن الكريم- سورة المائدة/الآيتان 28 و29).
وفـي القرآن الكريم أيضاً: «منْ قتَلَ نفْساً بغيْر نفْسٍ أو فَسَادٍ فـي الأرضِ فكأنّما قتلَ النَّاسَ جميعاً، ومَنْ أحْياها فكأنّما أحيا الناسَ جميعاً» (سورة المائدة/الآية 32).
وجاء فـي النصّ القرآني أيضاً ما يؤكد على الإعتدال ورفض التطرف: «وكذلِكَ جعلناكُمْ أمَّةً وسَطاً لتكونوا شُهَداءَ على النّاس» … (سورة البقرة/الآية 143).
وفـي النصّ القرآني أيضاً: «وما أرْسَلْناكَ إلا رَحْمةً للعالمين». (سورة الأنبياء/الآية 107).«ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى». (سورة فاطر/الآية 18). «ولا تستوي الحسَنةُ ولا السيّئةُ ادْفَعْ بالتي هِيَ أحسَنُ فإذا الذي بينَكَ وبيْنَهُ عداوَةٌ كأنَّهُ وليٌّ حميم». (سورة فُصِّلت/ الآية 34). «وتَعاونوا على البِرِّ والتَّقوى وَلا تَعَاوَنوا على الإثْمِ والعُدْوان». (سورة المائدة/الآية 2).
فـي القرآن الكريم نجد الآيات:
– «ادعُ إلى سبيلِ ربِّك بالحِكْمةِ والمَوْعظةِ الحَسَنَةِ وَجادِلْهُم بالتي هيَ أحسنُ» (سورة النحل – الآية 125).
– «أفَأنْت تُكْرِهُ النَّاسَ حتى يكونوا مؤمنين» (سورة يونس – الآية 99).
– «وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لِتَعارفوا» (سورة الحجرات – الآية 13).
– «وَعِبادُ الرَّحمنِ الذين يَمشونَ على الأرضِ هَوْناً وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلونَ قالوا سَلاماً» (الفرقان – الآية 63).
***
هذه نماذج قليلة من كثيرٍ ورَدَ فـي القرآن الكريم، كتاب الله الذي يكرّر المسلمون قراءته (بل ويحفظونه عن ظهر قلب أحياناً)، لكن الهوّة سحيقةٌ أيضاً بين من يقرأون وبين من يفقهون ما يقرأون.. ثم بين من يسلكون فـي أعمالهم ما يفقهونه فـي فكرهم!.
فلِمَ يتواصل استهلاك الجهود والطاقات الفكرية فـي العالم الإسلامي عموماً بالعودة المتزمّتة والمتعصّبة إلى اجتهاداتٍ وتفسيراتٍ كانت خاضعةً لزمنٍ معيّن فـي مكانٍ محدّد؟ ولماذا أيضاً هذا الانحباس لدى المسلمين فـي الإختلاف بينهم حول «كيفـيّة العبادات» بدلاً من التركيز على «ماهيّة وكيفـيّة المعاملات» بين الناس أجمعين؟ ألم يقل الحديث النبوي الشريف إنّ «الدين هو المعاملة»؟. ولِمَ لا يتمّ استخلاص مجموعة من القواعد والقيم والمفاهيم لوضعها بشكل إعلان مبادئ إسلامية (مثل إعلان مبادئ حقوق الإنسان) لتشمل مواضيع: الشورى والحكم، والعدل والمساواة، ومواصفات الدعاة والعمل الصالح، وواجبات أولي الأمر والحكّام، وكل ما يحفظ كرامة الإنسان وحقوقه، وكيفـية العلاقة مع الآخر، بحيث تصبح هذه المبادئ مرجعيةً مشتركة لكلّ المسلمين، ومنارةً أيضاً لغير المسلمين لفهمٍ أفضل للإسلام؟ ففـي ذلك مرجعيةٌ هامّة لمحاسبة الحاكم والمحكوم معاً، ولبناء أي وطن وكل مواطن، وفـي ذلك أيضاً دعوةٌ لكلّ الدول الإسلامية للاستناد إلى هذه المرجعية من القيم والمبادئ، بدل التوقّف حصراً على موضوع اجتهادات الفقهاء السابقين فـي التفسير والشريعة.
أيضاً، يربط الدين الإسلامي الحنيف بين الإيمان والعمل الصالح، أي بين النظرية والتطبيق، بين الشعار والممارسة. فهل يفعل المسلمون ذلك حقّاً حينما يتحدّثون عن العلاقة مع الآخر وعن التعدّدية والتسامح وعن احترام حقوق الآخرين؟!.
إنّ الأمّة العربية تقوم أصول ثقافتها الدينية والحضارية على الحوار مع الآخر بينما لا يفعل ذلك ناسُها المعاصرون. الأمّة العربية هي مهبط كل الرسل والرسالات، وفـيها ظهرت قبل الإسلام حضاراتٌ كثيرة ورسالاتٌ سماوية. كذلك فـي الدين الإسلامي دعوةٌ صريحة للتّعارف بين الشعوب ولعدم التفريق بين الرسل والأنبياء. فهي أمَّة عربية مجبولة على التعدّدية وعلى حقّ وجود الآخر، وتقوم روحياً على تعدّد الرسل والرسالات، وتقوم ديموغرافـياً على تعدّد الأجناس والأعراق والألوان، وحضارياً على تجارب وآثار أهم الحضارات الإنسانية، بينما للأسف يسود واقع الأمَّة العربية الآن حال التخلّف والتفرقة والفئوية والتعصّب والحروب الأهلية.
لِمَ لا تحدث الآن وقفة مع النفس العربية عموماً، والإسلامية منها خصوصاً، للتساؤل عمَّ حدث ويحدث فـي المنطقة العربية وخارجها من أعمال عنف مسلّح تحت مظلّة دينية وشعارات إسلامية؟
ولِمَ هذا الانفصام فـي الشخصية العربية بين الإجماع على المصلحة الإسرائيلية فـي تفتيت الكيانات العربية من جهة، وفـي إثارة موضوع «الخطر الإسلامي» القادم من الشرق كعدوٍّ جديد للغرب بعد اندثار الحقبة الشيوعية، من جهة أخرى، وفـي إضفاء صفة الإرهاب على العرب والمسلمين، وبين ما نشهده من انتشار لأفكار وممارسات طائفـية ومذهبية وإثنية فـي معظم المجتمعات العربية، وزيادة متصاعدة فـي حجم العنف المسلّح الذي تقوم به جماعات تحمل أسماء إسلامية؟!.
فأيُّ شريعة دينية تحلل قتل الأبرياء والأطفال والنساء والمدنيين وهدم وحدة الأمة والمجتمع؟!.
وأيُّ منطقٍ عربي أو إسلامي يُفسّر الآن كيف أنّ هناك هدنة فـي الأراضي الفلسطينية المحتلّة اقتضت وقف العمليات العسكرية ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي، بينما تتصاعد موجة العنف المسلّح الأهلي فـي المشرق العربي وفـي دول عربية أخرى؟!.
الاحتلال الإسرائيلي، بما هو عليه من احتلال استيطاني يستهدف ابتلاع الأرض وإقامة مستوطنات فـيها، وطرد أصحاب الأرض الشرعيين منها، ولا حالة مساوية له فـي تاريخ الاحتلالات بالمنطقة العربية.. يجوز أن تحصل معه تسويات ومعاهدات، وأن تُمنَع ضدّه العمليات العسكرية من كلّ الجبهات، بينما لا تزال بعض الأطراف العربية (الحاكمة أو المعارضة) ترفض وضع تسويات سياسية لأزمات أمنية فـي بلدانها؟!
فأيُّ مراهنةٍ تجري الآن على العنف المسلّح الدامي يومياً لمئات من العرب فـي أكثر من مكان؟ هل يأمل البعض أن يؤدّي هذا العنف المسلّح إلى تغيير معادلات سياسية محلية أو إقليمية بينما الذي يتغير فعلاً هو مصير الأوطان ووحدتها!.
المشروع الإسرائيلي وحده فقط مستفـيد من هذه الأعمال التي تجري الآن على أرضٍ عربية هي خصبة حالياً لكلّ أنواع التمزيق والتقسيم والاقتتال الداخلي..
وما هي بصدفةٍ سياسية أن يتزامن تصنيف العرب والمسلمين فـي العالم كلّه – وليس بالغرب وحده – بالإرهابيين، طبقاً للتعبئة الإسرائيلية التي جرت منذ مطلع التسعينات، مع خروج جماعات التفرقة الطائفـية والمذهبية والإثنية فـي كلّ البلاد العربية!!
ففـي غياب المشاريع الوطنية التوحيدية الجادّة داخل البلاد
العربية، وفـي غياب المرجعية العربية الفاعلة، أصبحت المنطقة العربية مفتوحةً ومشرّعة ليس فقط أمام التدخل الأجنبي، بل أيضاً أمام مشاريع التقسيم والحروب الأهلية التي تجعل المنطقة كلّها تسبح فـي الفلك الإسرائيلي.
Leave a Reply